تجربة الرّواية الأولى


*مـحمد الحباشة


خاص ( ثقافات )
– 1 –
عندما قرّرت أن أكتب رواية، قبل خمس سنوات تقريبا، كنت بصدد قراءة رواية “عالم بلا خرائط” التي كتبها بالاشتراك جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف. أذكر هذه الواقعة من بين وقائع عديدة مهمّة في حياتي: كنت مـمدّدا على فراش غرفتي التي أتشاركها مع أخي الأوسط وكنت ما أزال بعد تلميذا، أقرأ “عالم بلا خرائط” ثـمّ أقمت ظهري فجأة والكتاب ما يزال بين يديّ وتساءلت “لم لا أكتب رواية؟” بدأ الأمر بهذا السّؤال، ولعلّ من أهمّ دوافع الكتابة الرّوائيّة هي كلّ الرّوايات التي نقرأها ونحبّها، ومن هنا كان استنتاجي الـخاصّ أنّ الـحاجة الـجماليّة لقراءة الرّواية وكتابتها، هي في الأخير نفسها، ولعلّنا نطمح من خلال هتين الـممارستين الـجماليّتين أن نكتشف جزءا من الـحياة الإنسانيّة. أذكر “عالم بلا خرائط” لا فقط لأهـمّـيّـتها كرواية وكحدث في حياتي، بل لأنّـها كانت مـختلفة عن كلّ ما قرأت حينها، وهو ما خصّها عندي بـمكانة مـميّزة في لغتها وحبكتها واختيار شخصيّاتها. بعد “عالم بلا خرائط” كنت قد تفرّعت في قراءات أخرى، جدّ مهمّة، شرقا وغربا، شكّلت جزءا مهمّا من حساسيّتـي الـجماليّة.
– 2 –
عندما كنت أفكّر في كتابة روايتي الأولى “خلدون ميشال” الصّادرة عن دار زينب للنّشر تونس / 2015 ، وجاءت في 123 صفحة ، كنت قد كتبت بعض القصص القصيرة التي قرأتها على أصدقائي أيّام العطل في مدينتي الأمّ “منزل تـميم” ، وكنّا نتبادل الآراء حولـها، سواء في فنّيّتها أو المواضيع التي تطرحها، ولكنّي لم أنشر أيّا منها، بل لم أفكّر في ذلك أبدا. كانت بالنّسبة إليّ مـجرّد تـمارين في الكتابة السّرديّة. في البداية لم تكن الرّواية جاهزة في ذهني. ولكنّي كنت أعرف بعض الشّخصيّات التي ستكون موجودة. وهو أمر عليّ الاعتراف به، حتّى في الرّواية التي أشتغل عليها حاليّا أو تلك التي سأكتبها لاحقا، وهو أنّي أبدأ دائما بتمثّل شخصيّات، وحتّى التّخطيط الذي أضعه هو تخطيط بالشّخصيّات. بالنّسبة “لـخلدون ميشال” كنت أعرف أنّه سيكون هناك كاتب شابّ مغمور ينتمي إلى الطّبقة التّونسيّة الوسطى، وفتاة تخسر طفلا، وعاهرة، وأخرى نصف تونسيّة نصف فرنسيّة، وأخرى فرنسيّة، ورجل كهل خبر الحياة، وبعض الإداريّين، وأسر مـحافظة وبعض الشّخصيّات التي يحتاجها السّرد ولا تقلّ أهـمّـيّتها عن الأخرى. لم يبق أمامي سوى تـمثّل العلاقات الـممكنة التي ستجمع بينها، والأمكنة التي ستتواجد فيها، ولم أكن مـحتاجا سوى لـمدّة أطول من التّفكير كي أتبيّن كلّ هذا. 
– 3 –
يقول ميلان كونديرا في كتابه النّظريّ الرّائع “الوصايا الـمغدورة”:
“أن يكون الـمرء روائيّا، شكّل بالنّسبة لي، وأكثر من مـمارسة أيّ جنس أدبيّ آخر موقفا وحكمة وموقعا اجتماعيّا، موقعا يستبعد كلّ تـماثل مع السّياسة والدّين والإيديولوجيا والأخلاق والـجماعة، لا تـماثل واعي، عنيد، حانق، ولا يعدّ هروبا أو سلبيّة، إنّـما يعدّ مقاومة وتحدّ وتـمرّد.” 
من الـمهمّ جدّا أن نقف عند كلام هذا الرّوائيّ العظيم. فالرّوائيّ الـحقيقيّ لا يكتب رواياته بأطروحات سياسيّة مسبقة، هذا أوّلا. ثانيا، تجربته كروائيّ يجب أن تكون مستقلّة عن إكراهات التّاريخ العامّ بكلّ مظاهرها، حتّى وإن حفل تاريخ الرّواية العالـميّة بأسماء التزمت بقضايا عامّة خارجة عن نطاق الأدب نفسه. لا يـمكن للرّوائيّ أن يلتزم بالتزام آخر غير الرّواية، والقضيّة التي يدافع عنها، يجب أن تكون قضيّة الأدب دون غيره. وهذه قناعة خاصّة بالنّسبة إليّ ستظلّ تلازمني وعلى أساسها كتبت “خلدون ميشال”، بل لعلّي نوّهت بكلّ عفويّة، من خلال تجربة الشّخصيّات ذاتها، إلى هذا التّنصّل من إكراهات التّاريخ العامّ والانشغال الكلّيّ بالحياة داخل تاريخ خاصّ وذاتيّ. 
– 4 –
لا بدّ أن يكون هناك دافع لكتابة الرّواية. وغالبا ما يظهر هذا الدّافع في مكوّنات الرّواية نفسها. بالنّسبة إليّ، تعقيد العلاقات الإنسانيّة، هو أهمّ دافع، وله تـمظهرات عديدة (الـمصادفات مثلا في خلدون ميشال وما يـمكن أن تكشف من خطإ في إعطاء الآخرين صفات هي ليست في الأخير كذلك. الأمر كوميديّ هذا صحيح، ولكنّه يضع مـجمل التّجربة الإنسانيّة في موضع تساؤل، لأنّه ينسّبها.) سؤال الفرد وعلاقته بذاته وبالآخرين هو من الـمهامّ الأساسيّة للرّواية الحديثة، والاشتغال على الفرد يعني كذلك أن نشكّ في إمكانيّاته الفرديّة وهو ما يشكّل ذاك الطّابع الكوميديّ للكتابة الرّوائيّة وهو ما من شأنه أن يعلي من قيمة الفرد والفرديّة لا أن يلغيها أو يبقيها على الهامش. حاولت في “خلدون ميشال” أن أضع إشارات لكلّ هذا، وهو أمر سيظهر باطّراد في مـجمل رواياتي اللاّحقة بطريقة أكثر تعقيدا. عندما بدأت كتابة الرّواية، كنت مقتنعا بأنّـها لن تكون طويلة، وأعترف بأنّ بعض الشّخصيّات الأخرى لروايات أخرى، بدأت تتشكّل في ذهني وبدأت أفكّر فيها بجدّية، غير أنّي صارحت نفسي بأنّي لست مستعدّا بعد بأن أبدأ عملا طويلا، فذلك يتطلّب على الأقلّ خمس ساعات من العمل اليوميّ وهو أمر ليس متوفّرا لديّ بحكم انشغالي بدراستي الـجامعيّة التي تحتاج وقتا كثيرا فضلا عن مشاغل أخرى. وهكذا، كانت قناعتي بأنّه من الأفضل لي لو بدأت برواية أو روايتين قصيرتين، وهكذا كانت “خلدون ميشال.” 
– 5 –
علاقتي بالسّينما بدأت من سنين مراهقتي. كنت أشاهد بكثرة السّينما الأمريكيّة فضلا عن بعض الأفلام من جنسيّات أخرى اكتشفت فيها الـجيّد من هذا الفنّ. وهكذا ترسّخت في ذهني أفلامٌ عديدة مازلت أعيد مشاهدتـها من جديد إلى الآن دون أن أضجر منها، وهي أفلام تركت فيّ تأثيرا عميقا يصل أحيانا إلى حدّ البكاء أثناء مشاهدتها أو إصابتي بالإحباط لأيّام طويلة قادمة. سينما “بيدرو ألـمودوفار” الـمخرج والكاتب الإسبانيّ الكبير، ويا لـها من ذكرى جميلة. عندما قدمت إلى العاصمة تونس أواخر عام 2011 لأسكن بـمفردي في ستوديو غير بعيد عن الجامعة التي أدرس فيها الإنجليزيّة، كنت قد حمّلتُ في حاسوبي النّقّال مـجمل أفلامه، بعد أن حدّثني عنه صديقي مروان الماجد وهو أستاذ في معهد الفنون الـجميلة في نابل وباحث في الإستطيقا. كنت في اللّيل، بعد أن أنـهي كلّ شيء، أشاهد واحدا من أفلام “ألـمودوفار” وقد أضافت لي الكثير على الصّعيدين الـجماليّ والـموضوعاتي، إذ وجدت فيها رؤيتي التي كتبت عنها في الفقرة السّابقة حول تعقيد العلاقات الإنسانيّة وسؤال الفرد والفرديّة بتناول للمأساة الإنسانيّة أواخر القرن العشرين وبدايات هذا القرن، دون تخلّ عن ذاك الطّابع الكوميديّ الـمرح الذي يجعل من أكثر تجاربنا مأساويّة مـجرّد دعابات نرويها لبعضنا في عمر متقدّم أو يرويها الآخرون عنّا. تحدّثت عن السّينما لأمرين، الأوّل هو أنّنا لا يـمكن أن نكتب الرّوايات دون أن يكون لدينا علاقة شبه يوميّة بالسّينما، تـماما كعلاقتنا بالقراءة. يجب أن نُراكم المشاهدات الجيّدة مثلما نُراكم القراءات الجيّدة. الأمر الثّاني هو ملاحظات بعض الأصدقاء الذين قرأوا “خلدون ميشال” وأخبروني بأنّهم قرأوها كأنّهم يشاهدون فلما وأعجبوا بهذه المشاهد الواضحة التي فيها، وهو أمر أعترف بأنّي اشتغلت عليه كثيرا بالأخصّ في العمل على اللّغة التي جرّدتها من كلّ الـمجازات والاستعارات والتّشابيه والكنايات التي تشتّت على القارئ وضوح المشاهد. لم آتِ بسينمائيّة الكتابة من السّينما وحدها، ولكن أيضا من قراءاتي، على غرار أعمال كونديرا، ساراماغو، كوركوف، جون ايرفينغ، بهاء طاهر، إلياس خوري، مـحمد شكري، وكثيرون، كثيرون من روائيّي العالم العظام. 
في الأخير، الرّواية فنّ يقول التّجربة الإنسانيّة مثلما لا تقولها الفنون الأخرى. الرّواية هي فنّ الرّجال الأحرار، وهذه روايتي الأولى “خلدون ميشال” أبدأ بـها التّجربة، مع العلم بأنّ حلمي الكبير في هذه الحياة هو أن أتمكّن في يوم ما من التّفرّغ الكلّي لكتابة الرّواية. 
______
*روائي تونسيّ 

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *