العلاقة بين الثقافة والسياسة هي في غاية التعقيد، كما أنها تطرح الكثير من الإشكاليات منذ أزمنة بعيدة. وليست قليلة هي الآراء التي يؤكّد أصحابها أن رجال السياسة لا يحبّون الثقافة والمثقفين ولا يولون هؤلاء الكثير من الاهتمام. هذا يبدو أيضاً من خلال تواضع الميزانيات المخصصة للثقافة بالقياس إلى العديد من المجالات الأخرى البعيدة عنها.
ويدفع «سكوت تيمبيرغ» الكاتب الأميركي في مجالي الموسيقى والثقافة، إهمال الثقافة في بلدين متقدمين مثل الولايات المتحدة وبريطانيا إلى حد «قتل الطبقة المبدعة»، كما جاء في العنوان الفرعي لعمله الأخير الذي يحمل عنواناً رئيسياً مفاده: «تحطّم الثقافة».
ويصف المؤلف أن التقهقر الكبير في دور الثقافة ومكانتها في المجتمعين المعنيين، الأميركي والبريطاني، يشكّل أحد أشكال التبدّل الكبرى التي يعرفها مطلع هذا القرن الحادي والعشرين. ذلك بين جملة من التبدّلات في عالم يمثّل التطوّر والتجديد بعض سماته الأساسية البارزة. ويرى أنه من المطلوب «التكيّف والتأقلم باستمرار» مع العالم الذي يتطوّر ويتجدد.
ويكرّس المؤلف العديد من صفحات هذا العمل لشرح الآثار السلبية، بل و«القاتلة أحياناً»، للتطورات التي فرضتها التكنولوجيات الجديدة «الرقمية» في عالم الاتصالات والإعلام. هكذا يتحدّث عن «الكلفة الباهظة» التي يتمثّل عنوانها في مختلف مناطق الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، البلدين موضوع الدراسة، بتلك «الأبواب المغلقة» للكثير من مخازن بيع الاسطوانات الموسيقية والصحف وغيرها من منتجات الصحافة المكتوبة أمام حالة من واقع «اللامبالاة العامّة».
ولا يتردد مؤلف هذا الكتاب في التأكيد أن الأمر يمثّل نوعاً من «معركة الوجود» و«الصراع من أجل البقاء» بالنسبة إلى الكثير من العاملين في القطاع الثقافي بكل مشاربه. ذلك على خلفية حالة من التوتر الاجتماعي الذي يرافق مثل هذه الحالات باستمرار.
ويذكّر في هذا السياق بنهاية ما يسميه «العصر الذهبي» للثقافة الذي استمّر، كما يحدد، من نهايات سنوات الستينات وحتى بدايات التسعينات من القرن الماضي. وهو «العصر» الذي كان فيه المبدعون يحظون بشهرة لا سابق لها في جميع العصور الغابرة.
ذلك المجد الثقافي «تحطّم وانهار» بفعل التطورات الكبرى التي جلبت من أشكال التجديد ما لم تجلبه آلاف السنوات قبلها. هذا مع ترافق ذلك بنوع من «العزوف» عن التأكيد على أهمية «التربية الثقافية» وعن الاستثمار في مجالات «الفنون العامّة». ذلك بالنسبة إلى بريطانيا، كما بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما يحدد المؤلف القول.
وكان من نتائج ذلك العزوف تناقص فرص العمل في المجال الفنّي أو الاستثمار فيه. ومن الأفكار التي تتردد في تحليلات هذا الكتاب تأكيد أن النظرة السائدة في البلدين المعنيين عن الفن هي أنه «نخبوي» وبالتالي لقي في الكثير من الحالات موقفاً فيه الكثير من عدم الاحترام من «عامّة الشعب» الذين اعتبروه بمثابة «نشاط لا مردود له في عالم تحكمه قواعد الكسب».
والكتاب يقدّم فيه «سكوت ديمبيرغ» البراهين على واقع «تحطم الثقافة» في أميركا وبريطانيا حيث يتقهقر دور المثقفين ومكانتهم في المشهد العام. ولا شكّ أنه عمل جدير بالقراءة من قبل جميع العاملين في شتّى مشارب «عالم الثقافة».
—–
بيان الكتب