*نوري الجراح
ليسَ ثّمَّةَ من شِعْرٍ، أيّ شِعْر، دونما عراك من نوع ما بين الشاعر ولغته، بين الشاعر ومخيلته، بين الشَّاعر والوساوس التي لا تفارقه فيما هو يُوَدِّعُ تجربةً ويخوضُ تجربةً أخرى مع اللُّغة. معركة الشاعر مع اللغة هي صورة أخرى لمعركته مع العالم ومواضعاته المختلفة.
يخوضُ الشَّاعر معركته مع اللُّغة لينطقها أشياءه الأكثر سرّية، وليجعلها تبوح بأغمض ما في وجدانه وأكثره وضوحاً، في آنٍ معا. وبالتالي، فإنَّ عراك الشاعر مع اللُّغة هو عراك مع ذاته الوجودية الضَّاربة في الزمن الماضي، وصولا إلى لحظته الحاضرة، ومع كل ما أنجزته اللُّغة على أيدي أسلافه وحتى اللَّحظة الرَّاهنة من الزَّمن الحديث، وهو المُنجز الذي يتوجَّبُ على الشَّاعر أنْ يفلتَ مِنْهُ.
إنَّها حرب مع التاريخ والزمن وقوالبهما المتكلِّسة تتحقَّقُ في صورة صراع فردي داخلي، صامت وعنيف، هو في خلاصته مغامرةٌ تأخذ الشَّاعرَ ولغته إلى نهر اليتم. هناك، على تخوم المستقبل، يغسل الشاعر الكلمات من ذاكرتها، ويبثُّ فيها طاقة وضوءاً جديدين يَمْنَحَانِهَا حياةً جديدةً.
معركةُ الشَّاعر، إذن، ليست مع أقران منافسين، ولا مجايلين متنافسين، كما يطيب للنَّقد الأدبي في مرات أن يختصر المسألة. إنَّما هي، من جهة أولى، معركة يخوضها في مواجهة شرطه الزمني وضدَّ ما هو دارجٌ مألوفُ في لغة عصره. وهي، من جهة ثانية، معركةٌ يخوضها مع قدره الوجودي. وتلكَ، في ما أحسبُ، هي المعركة الحقيقية التي يمكننا خوضها للفوز بقصيدة مبتكرة. ولعلَّ لهذه المعركة أن تكون هي المعركةُ الوحيدةُ المُشَرِّفةُ للشَّاعر، فهو إذ يخوض غمارها إنما يفعل ذلك على مساحة وجودية شاسعة تحتلها فجوة ضخمة تشبه الأخدود الذي صلب عليه بروميثيوس عقاباً له على سرقة النار من الآلهة، وإفشاءِ سرّها للبشر.
2
تَقْويلُ اللُّغة ما لم تَقٌلْهُ، تلك هي أولى مهمات الشَّاعر في علاقته باللُّغة، أكان يكتب قصيدةَ حُبٍّ في امرأة، أو ملحمةً في شعب. فكيف يفعل الشاعر ذلك؟ كيف يعارك لغته؟ كيف ينتصر على عاداته اللُّغوية، وعلى ما ألف وآثر في اللغة، ليمكنه أن يكتب لغة باعثة على الدَّهشة مجدداً؟ كيف يفعل الشَّاعرُ ذلكَ إن هو لم يغادر مواقعه اللغوية كمن يغادر البيت الذي يسكن، لينتمي إلى الطريق. وعندي أنَّ الطَّريق إلى البيت أكثر إثارة من لحظة الوصول إلى البيت أو دخوله والمكوث فيه. وإنني لأتساءلُ، الآنَ، أليس الشَّاعر المُغَامِرُ هو ذاك الذي يخوض في علاقته مع العالم نزاعاً لا يخمد بين شغفين: حَمِيمِيَّة البيت وأُلْفَتُهُ، ومُفَاجَآتُ الطَّريق؟
على أنَّ الشَّاعر أقدر على أنْ يتحقق في انتمائه إلى الحرية الشاسعة التي يتيحها فضاء مفتوح على اليتم. نعم اليتم بما هو تخفُّفٌ وحرية، وأرض للبدء، في كل مرة، من دونما شعور باهظ بالأرباح والممتلكات. كلُّ ما نملكه يصبح قيداً، بما في ذلك رصيدنا من الآثار الشّعرية ومن البراعة اللُّغوية. ولعل الثّقة المفرطة بالقدرة على الصَّنِيع الفني في كل وقت هي كبرى الآفات التي تصيب شاعراً. فالصَّنيع الفني يعوزُه، في كلِّ مرَّة، خَوفٌ وقَلَقٌ وشُعُورٌ بالنَّقْصِ وانْعِدَام الأمَان، حتّى يتخلَّق بهياً وكاسراً في طاقته المبدعة.
من كُلِّ هذه البواعث القاسية والمؤلمة، يُجَدِّدُ الشَّاعُر علاقَتَه باللغة، ويمتحنها. ومن تلك التُّخوم يواصل الشَّاعر رحلته في مدارات العالم.
لا بُدَّ من شُعُور عميق وحقيقي بأننا لا نملك شيئا أغلى من لحظة العَراء، هناك يغتسلُ الشاعر بضوء الفقدان، ويمتلئُ باليتم. بهذا المعنى يصبح اليتم أجنحة الشعر وفضاء الحرية. وهذا كله يصلح لأن يكون مدخلا لفرادة ما في التجربة الشعرية لشاعر ما، وهي التجربة التي لا يمكن أن ننظر إليها، بعد ذلك، إلا بوصفها تجربة كيانية تُمكِّنُ الشاعر من أن يُقَوِّلَ اللُّغة ما لم تَقُلْهُ بعد.
3
حتَّى قبل سنوات قليلة، قبل أنْ تصرخ الضَّحية وتُظْهَر دمها، قبل أنْ يتدفق نَهْرُ الدَّم العربي في الشَّوارع، ويتحول السُّوريون إلى أُمْثُولَةِ العَصْرِ، كانَ الشَّاعرُ العربي يُطَوِّفُ بأسطورته العزلاء صارخاً في برية منفاه المفرد. واليوم، فإنَّ دمَ الحرية بات يَدْفُقُ في نشيد الشَّاعر العربي أصواتاً تُخَالط صوتهُ. لم يعد صوته مفرداً، ولم تعد فكرته عن الحرية مجرد خيالات عزلاء غريبة في عالم غريب. لم يعد الشاعر ذلك المَنْفِيُّ المفرد المعلق بين أرض وسماء غريبين، ولكنه بات واحداً في جمع تراجيدي يقف بالملايين على أبواب القيامة ويضرب بابها بجباه دامية.
ولكن كيفَ يَتَفَكَّرُ الشُّعراء إزاءَ المصائر التراجيدية الكبرى للسُّوريين المبللين بالدَّم، ضحايا المحرقة الأممية، وهم طالما كانوا خالقي الآلهة، في سُرَّة المتوسط، ومبتكري الأمميات. هل ينزوي الشَّاعر ويصمتُ أم يُغَاِمُر مع اللُّغة ليكتب نشيداً ملحمياً كونيَ النَّزعة والرُؤى والخيالات، يتأسس نسيجه اللُّغوي والتخييلي وتتأسس نبرته ولهجته على السَّرديات الأولى، الأقانيم والأيقونات الكبرى المتصارعة في مخيلة الإنسان ونصوصه.
لا بُدَّ أنْ تكونَ القصيدةُ، بإرادة شاعرها مرَّة، ورغمًا عنه مرات، أرضاً وسماءً للآلام الإنسانية الكبرى.
4
لا يمكننا أنْ نغفر للشُّعراء هروبهم من معركة الحرية، وترك المطالبين بها يخوضونها بدمهم العاري في مواجهة الاستبداد ووحوشه. لا يمكننا أنْ ننادي بالحرية لأنفسنا، كشعراء، ثم عندما يقتدي النَّاس بالفكرة ويثورون على الطُّغيان مطالبين باسترداد حريتهم وكرامتهم، نُدِيرُ لهم ظهورنا وننكرُ عليهم ثورتهم. ثم نطلع عليهم بأقبح الحجج والذرائع. شخصياً، لا يمكنني أنْ أرى في هذا عملاً أخلاقياً، بل إنَّ صاحبه مُرَاوغٌ يعوزه الحدُّ الأدنى من الشَّجاعة الأخلاقية.
لطالما كان الشُّعراء صوت الحرية، وهم لا يستحقون اسم الشَّاعر ما لم يكونوا صوت الضَّحية في الأزمنة العاصفة. بعد العراقيين ومن قبلهم الفلسطينيين واللبنانيين والجزائريين، ها هم السُّوريون يفضحون بدمهم المهراق مشهد سقوط القيم وانهيار الأخلاق في زمننا المعاصر وعالمنا الحديث المُعَولَمِ، والمُكَونَنِ. وعلى الشَّاعر العربي، إنْ هو أرادَ أنْ يردمَ الفَجْوَة المُرْعِبَةَ بين وعيه وضميره أنْ يكون صوتهم، بوصفهم الضَّحية الكونية الجديدة التي أُرِيدَ لدمها الغزير أنْ يتدفق بلا لون تحت أبصار عمياء وضمائر ميتة، قَبِلَتْ أنْ تتهدَّم وتحترق سوريا التي أهدت العالم الأبجدية والفنون والأديان.
واليوم، بعد خمس سنوات من الهولوكوست الفارسي برعاية أممية. ها نحن في دراما سورية فوق تاريخية، تراجيديا خَلْخَلَتْ نُصُوصَ الإغريق والطُّرواديين والقرطاجيين. المأساة السُّورية هشَّمَتْ جميع المآسي، وجعلت من مشاهد هوميروس وفيرجيليوس واسخيلوس وسوفوكل أيقونات شاحبة. باتت التراجيديا السورية المتعاظمة الأيقونة الأكمل للمأساة الإنسانية.
لم يبق شيء لم يُجَرَّبْ على الجسد الجماعي السُّوري. لم يبق شيء واقعي ولا شيء خيالي ولم يجربه الطُّغيان ورعاته على السُّوريين وفوق جسدهم الجماعي من باب إخضاعهم، ولكن بلا جدوى. فهم، فرادى وجماعات، يأبون إلا أنْ يكونوا صوت الضَّحية الكونية؛ عابراً الأزمنة والمسافات.
عناد جماعي قدري وانسداد أفق يصنعان المأساة، تلو المأساة، وكل مرة بابتكار غير مسبوق. ستقول لنا مانشيتات الصُّحف إنَّ سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة. نحن في وضع لا يصدق. ومع ذلك لا ينبغي أنْ نسمح لقصائدنا أنْ تعترف بهذه الحقيقة. لا ينبغي لنا، كشُعَراء، أنْ نَسْمَحَ لهذه الحقيقة اللا تاريخية أنْ تصبح واقعاً تاريخياً.
5
القصيدةُ مستودعُ أسرارٍ وحواس، صُنْدُوق عجائب، يُرِيكَ الدُّنيا في صُوُرٍ، ويخطو بك بالكلمات إلى ما وراء الصُّور. المدهش والغريب هما ديدن الشاعر في ما يخرج به على نفسه أولاً، وثانياً، وثالثاً، ثم بعد ذلك على النَّاس. بهذا المعنى، فإنَّ القصيدة هي صندوق الطُّفولة وكل ما يُرى فيه يبعث على الدَّهشة ويتخلّق في بهجتها. ومن البدهي أنَّ أكثر من يبتهج بالقصيدة هم العُشَّاقُ، لأنَّهم يعيشون في أرض الشَّغف، ولكونهم اسْتَبْقُوا في حواسهم وكياناتهم شيئًا من الطفل الذي يعوزنا لنكون أحراراً في حواسنا وجامحين في حريتنا. أما العُقَلاءُ فيستقبلون القصيدةَ متشكِّكين، ويقرأونها بإيمان بارد هو ديدنُ العَقْل المَحْض.
كيف يمكن لناظر انشغل عقله وانشغلت حواسه بالأرقام والمعطيات والقصص المبتذلة أنْ ينظرَ، حتى لا أقول يتأمل، في لوحة لفنان مرهف سكنته مخيلته المنفعلة بكامل الوجود، وأسكنته في المتطرف من حواسه وأفكاره وهواجسه كفان غوغ، مثلاً. هذا الذي عاش آلاماً نفسية عنيفة، ونهضت بين شخصه وعالمه فجوة فاغرة مرعبة. كيف لمن انسجم، تماماً، مع عالمه، وحكمت حياته معادلة فاترة أنْ ينفعل بتلك اللَّوحة المتطرفة في لغتها وجمالها الفني انفعالاً مكافئاً؟ مستحيل. إنَّهُ لأمرٌ مستحيلُ الحدوث. فثمة هنا روحان: روح شاردة وشريدة في عالمها، وروح استسلمت للأسر الاجتماعي، حتى تواءمت وتقولبت وتبلَّدَتْ.
المكانُ هو سماءُ القصيدة، والشَّاعرُ مُسَاِفرٌ مُغَامِرٌ في المكان، وعَابرٌ مُتَفوقٌ على الأزمنة. ما من شِعْرٍ لو لم يَكُنْ هناك مكانٌ يُلْهِمُنَا، لو لم َيُكنْ مكانٌ يحتلُّ حواسنا على نحو خارق يسبره وينفذ إلى جوهره الميتافيزيقي.
المكانُ الأبقى هو مكانٌ نفارقه فنكتشفُ أنَّهُ راحلٌ معنا.
6
نحن لا نملك يقيناً كاملاً حول كيف استقبل جمهورٌ شعرنا. مسألة تلقي الشعر لطالما كانت معقدة. ولا يمكـن أخذها على محمل يسير. مرات تنفعل القـاعة وتصفـق لـك عنـد أبسط جملة، أو سطر في قصيدتك، وهو ما يصيبك بخيبة أمل، فقد انتظرت انفعالاً مشابهاً مع مقطع أو سطر أو صورة اعتبرتها أكثر عمقاً أو براعةً أو قوةً، أو لمعاناً. نحن نسعد بالانفعال الأعمق، بما يغوص تحت سطح النَّص، وتحت صورة اللَّحظة القرائية وصولاً إلى تلك الغبطات الصَّامتـة التي تَغْمـرُ المستمعين إلى الكلمات.
لطالما اعتبر البعض، وأنا منهم، القراءة الصَّامتة للشِّعر الطريقة المثلى للتمتع بالشِّعر. أُشارك في القراءات، ولكنني أسعد بطقس القراءة الصامتة أكثر مما أسعد بطقس القراءة الاحتفالية. علماً أنَّ بعض الشِّعر يصلح أكثر للقراءة بالصَّوت في القاعات والأماكن المفتوحة. ولهذا النَّوع من الشِّعر مُحِبُّونَ ومُعْجَبُونَ يغتبطونَ به. ولعلي أنا أيضاً اغتبط مراتٍ، وأسعد بسماع أصوات الشُّعراء وهم يُنْشِدُون الكلمات، ويقيمون للشِّعر طقساً احتفالياً مُفْعَماً بالمؤثرات.
_________
*المصدر: العرب