ممدوح فرّاج النابي
جنكيز إيتماتوف، كاتب قرغيزي ولد في عام 1928 بقرية فقيرة اسمها “شيكر” بوادي”تالاس”، يكتب باللغتين الروسية والقرغيزية. يدين إيتماتوف في حكاياته لجدته التي كان لها الدور الأكبر في ما اكتسبه من معلومات عن تاريخ الشعب القرغيزي، بل كانت ملهمته لفن الحكي. أصدر العديد من الأعمال التي جعلت شهرته عالية وسط الأدباء الروس، نذكر منها: جميلة، المعلم الأوّل، ويطول اليوم أكثر من قرن، طريق الحصاد، النطع، السفينة البيضاء، ووداعا يا غولساري، الغرانيق المبكرة، شجيرتي في منديل أحمر، عندما تتداعى الجبال، العروس الخالدة، طفولة في قرغيزيا، نمر الثلج، الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر وغيرها. وقد وصف الشاعر الفرنسي أراغون روايته “جميلة” بأنها “أجمل قصة حب في العالم”.
نساء الحرب
رواية «جميلة» الصادرة عن دار الساقي/ بيروت بترجمة هاف اليوسف، تبدأ من العقدة، فبعد قرار الحكومة بقيام النساء بأعمال الرجال الذين ذهبوا إلى الحرب، تضطر الحاجة إلى مَن يقوم بتوصيل الحبوب بالعربة إلى القطار، حينئذ يهتدي أورزمات رئيس العمال إلى كنة أم صادق “جميلة”، التي هي محور الحكاية الأساسي، وقد تزوجها الابن صادق، ومكث معها أربعة أشهر ثم تركها وذهب إلى المعركة، لكن الأم ترفض خوفا عليها من الذئاب، إلا أنه يطمئنها بعدما وجد الحل في أن يقوم الغلام أخو زوجها سعيد، الذي تدعوه جميلة دوما بـ“كيتشيتي بالا” أي الولد الصغير أو تناديه بـ“سلفي”، بمرافقتها في العربة وعندئذ تنتهي المسألة، لتبدأ حكاية جديدة هذه المرة محورها جميلة وسعيد والفتى القروي دانيار.
منذ نشأتها يتيمة مع أبيها اكتسبت جميلة الملامح الصارمة، فهي ابنة وحيدة لأبيها، فصارت الابن والبنت معا، كانت ترعى القطعان معه، لهذا أضفت على سلوكها وطباعها سمات ذكورية، فهي «حادة بل فظة، وتعمل بهمة كالرجال»، بعد زواجها بصادق تذهب إلى بيت حماتها، ومنذ أوَّل يوم أظهرت شخصيتها غير القابلة للترويض مع جاراتها، اللاتي اشتكين من فظاظة سلوكها، وإن كان هذا أعجب أم زوجها، والتي رأت في جميلة ندّا لها، فعاملتها معاملة جيدة، غير معاملة زوجات الأبناء لكناتهم، وعندما كانت تخرج إلى القرية لفت جمالها انتباه الشباب، فأخذوا يتحرشون بها إلا أنها كانت تصدهم، بلسانها تارة وبيدها تارة أخرى، وهو ما جعل عثمان الثمل أحد أقرباء زوجها يحنق عليها، وعندما حدث ما حدث بعد هروبها مع دانيار غريب القرية العائد من الحرب بلا أهل، اتخذها فرصة ليدنس شرفها، ويتحدث عن منظومة القيم ونسق الأعراف التي خرقتها جميلة.
تقدّم الحكاية البسيطة التي لم تتجاوز 78 صفحة، عالم القرية بجماله الطبيعي الذي أفاض السّارد المتمثل في الغلام سعيد سلف جميلة، في وصف معالمه وسهوله، وأيضا بالعادات الموجودة والمنظمة لسلوكيات إناسها، فلا تترك الزوجة الأرملة بيتها، ومنها أيضا لا يستطيع الغائب أن يبدأ رسالته لحبيبته وزوجته، قبل أبيه وأمه، والعادات الخاصة مثل عادات منع رئيس الكولخوز رعي الماشية في حقل البرسيم، إضافة إلى الناموس أو العرف الذي يعتبر الفتاة التي تهرب مع غريب امرأة تستحق القتل، لأنها لوّثت شرف العائلة، ومع هذا فإنّ الرواية تقدّم أيضا صورة أخرى من الحرب التي انعكس تأثيرها على القرية في غياب رجالها، وحلّ نساؤها محلهم، حتى صارت جميع النساء تشترك في المأساة كما أخبرت أم صادق كنتها. ومع قساوة الحرب إلا أن أهل القرية تجاوبوا معها بتقديم أبنائهم للمعركة، وأيضا بدعمها بالحبوب لإطعام الجنود، فقد كتب على مستودع الحبوب يافطة تؤكد هذا التفاني في المؤازرة: «كل سنبلة قمح ـ إلى الجبهة».
تأخذ الحكاية بعدا آخر مع دانيار وعمله في الكولخوز، وهي جمعية تعاونية زراعية ينشئها الفلاحون في ما بينهم بدعم من الدولة، أما السوفخوز فهي جمعية تنشئها الدولة ويعمل فيها الفلاحون كزراعيين. أثناء رحلة إرسال القمح إلى القطار، نتعرف على حكاية دانيار التي جعلته أشبه بالصامت، فهو ينتمي إلى قرية مجاورة، وإن كان الأهالي اعتبروه مواطنا أصيلا من قرية “كوركوريو”، بعدما فقد أهله وهو صغير فتربى يتيما وظلّ يتنقل لثلاث سنوات من بيت إلى آخر ثمّ رحل عند الكازاخ، وصار ابن الحياة التي شردته في شتى أصقاع الأرض.
رويدا رويدا بدأ يخرج الجانب الخفي منه خلال نظراته إلى جميلة، مدّعيا حاجته للرّاحة، حتى بدا ما بينهما فاضحا استرعى انتباه سعيد، الذي هو الآخر كان ثمّة شيء ينمو في داخله تجاه زوجة أخيه الغائب، وقد جاءت الأنباء بأنه يعالج في مستشفى “ساراتوف”، وسيعود قريبا، لكن جميلة كانت قد بدأت كل حواسها التي لم تعرف الحب من قبل مع صادق، تنمو مع الفتى دانيار.
صوت الحب
يبدأ التحوّل الدرامي في أحداث الرواية، مع تبدّل العلاقة بين جميلة ودانيار من السخرية منه ومن ملابسه الممزقة وأحواله الغريبة، إلى إعجاب بشخصيته، خاصة عندما بدأ يغني الأغاني الشعبيّة، لتأخذ في منتصفها قصة الحب التي نشأت دون إرادة من الطرفين، كان صوت دانيار هو رسول المحبة الذي نفذ إلى قلب جميلة الفارغ والمنكسر بالفقد، «ارتخت يداها وأسبلتا،… والتصقت بدانيار، وأسندت رأسها إلى كتفه برقة». حدث كل شيء بينهما في صمت، ودون ضجيج أو صخب، أحبا بعضيهما، وقاوما الحب، ثمّ انساقا إليه، وأخيرا اتفقا على الهرب فهربا، كلّ هذا جاء عبر التنهدات والإيماءات والجمل القصيرة، “لقد أتيت يا دانيار، أتيت بنفسي”، وفي كثير منه كان الصمت ترجمانه: «كان الصمت مخيما في الجوار، وتزحلق برق من دون صوت إلى الأسفل».
درامية الأحداث كشفت عن الصّراع الداخلي الذي كانت تعاني منه جميلة لمقاومة هذا الحبّ، فبعدما صدر منها ما صدر من ارتماء على جسد دانيار، ثم معانقته باندفاع بعد أن انتهى من أغنيته، إلا أنّها ما إن عادت إلى القرية حتى ذهبت عابسة لرئيس العمال أوروزمات وأخبرته بأن يأخذ عربته لأنها لن تذهب إلى المحطة ثانيا، ثم تتوجه إلى دانيار بحديث مبهم من قبل سعيد: “مابك، أم أنك لا تفهم؟… أم لا توجد غيري في الدنيا… أشاح دانيار بعينيه في صمت، وتنهدت جميلة وقالت: أو تظن الأمر سهلا عليّ؟”. حالة من المعاندة والمقاومة لكنها استسلمت في النهاية، لأن الحب لم يكن وليد لحظة لقائهما بل كان سابقا لها كما قالت جميلة «فأنا أحبك منذ زمن بعيد، وكنت أحبك وأنتظرك من قبل أن أعرفك، وها قد أتيت، وكأنك كنت تعلم أنني أنتظرك!»، وهو نفس ما كان يشعر به دانيار «كنت أيضا أحبك منذ زمن بعيد، وكنت أحلم بك في الخنادق، كنت أعلم أن حبي في موطني هو أنت يا جميلتي”.
الرواية مكتوبة بضمير الغائب العائد على سعيد القريب والملازم لجميلة ودانيار، يسرد وكأنه يقدم لوحة وصفية جميلة للقرية أثناء الحصاد، وجمالها عند سقوط الأمطار، وفي ذات الوقت يسرد حكاية جميلة ودانيار من منظور ذاتي أشبه بأغنية شجية عن زهرة برية نبتت في صحراء الحرب الخشنة. لكن قدر الحب لم يكن مصير جميلة ودانيار فقط، فقط تورط الغلام أيضا بحب جميلة، وقد أدرك هذا عند رحيله وإن كان يصفه بأنه حبه الأول وكان حبا طفوليّا.
________
*المصدر: العرب