علي عبيدات*
خاص ( ثقافات )
مولانا
نارٌ في قصبة هذا الناي وليس الصفير
ومن لا تعتريه هذه النار لن يحيا
هو محمد بن محمد بن حسين البلخي، والمعروف بألقاب كثيرة “جلال الدين”، “الخلاَّق”، “مولانا”، “المولى”، “مولانا الرومي”، “السيد الرومي”، وكان يختتم بعض قصائده بألقاب أخرى “الصامت”، “الأصم”(1). وإن شئت، فهو قطب الأولياء وسلطان الأتقياء والمحققين، برهان الموحدين، كاشف أسرار الأزلية، شارح رموز الأبدية، سر الله الأكبر وبرهان الله الأزهر، محبوب جناب رب الأرباب، قطب الأقطاب، المستغني عن جميع الألقاب، وارث الأنبياء والمرسلين، مولانا جلال الحق والملة والدين، محمد بن محمد بن الحسين البلخي، عظم الله ذكرهم وقدس الله أرواحهم بكمالاته ونور أرواح المريدين(2).
ولد الرومي (604هـ/1207م) في مدينة بلخ (أفغانستان حالياً وخراسان قديماً) وهاجر منها وهو في الخامسة من عمره مع أهله وكان والده بهاء الدين ولد “سلطان العلماء” من أهم فقهاء خراسان وخليفة العارف الكبير نجم الدين كبرى، وهو صاحب الملحمة العرفانيّة “المعارف” التي استفاد منها مولانا في تربيته الروحية، وتعتبر ملحمة المعارف أعلى درجة وأرفع مقام في البيان والبلاغة والكشف والإلهام.
وتمّت الهجرة بسبب خلاف بين الفلاسفة والمتصوفة وقتذاك، وكان بهاء الدين ولد من جهة والفيلسوف فخر الدين الرازي من أخرى على نقيضين، في زمن كانت سطوة السلطة السياسية (ملك خوارزم) في أشُدِّها، وتقول روايات أخرى إن الهجرة كانت بسبب غزو المغول الذي كان قائماً.
وفي طريق الهجرة التقى الرومي الطفل بالعارف الكبير فريد الدين العطار (صاحب منطق الطير) وحيّا الرومي وأهداه منظومته الصوفيَّة الكونيَّة (أسرار نامه)، وتوقع له مستقبلاً باهراً، وتفرس فيه فراسة، وقال لأبيه: لن يلبث ابنك هذا حتى يشعل النار في هشيم العالم.
أشرقت الشمس
مولانا الذي يحتفى العالم بمناسبة يوم ميلاده – التقريبي- هذه الأيام يتصدَّر مبيعات الكُتب في العالم بعد أن أقرت الولايات المتحدة الأمريكية أنه أبرز مؤلف تتداول كتبه في أمريكا والأعلى مبيعاً منذ سنوات، وقد نقلت أعماله إلى أغلب اللغات الحيَّة في العالم، ويلخصُ مولانا حياته كلها في بيت شعر كتبه في ملحمته الصوفية “مثنوي معنوي”، يقول فيه:
خلاصةُ عمري في ثلاث كلمات
كنتُ غضاً فعرفتُ فاحترقت
أما الغض فهو المتعلم الذي درس الفقه وعلوم الدين منذ ولادته حتى بلغ أشدَّه وهو في ربع عمره الأول على شيخه برهان الدین محقق الترمذي، بعد أن مات والده “بهاء الدين ولد” وماتت بعده أمه “مؤمنة خاتون” الخوارزمية، ثم انتقل إلى مرحلة الفقيه وصار يقف على منبر المسجد ويفتي لمن أراد أن يستوضح غامضاً في شؤون الدين، ونصَّبه على الإفتاء والتعليم السلطان السلجوقي “علاء الدين كيقباد” أكبر سلاطين السلاجقة في بلاد الروم وآسيا الصغرى والأناضول، فذاعت شهرته وصار موطئاً لطلاب العلم، وكان المُعلم المتعلم عندها عشرينياً.
وبعد أن أكمل مولانا تعلُمَّ الشريعة من طفولته حتى الربع الأول من حياته، وبدأ بعدها بتعليم ما تعلمه، جاءت أهم مرحلة من مراحل حياته، وهي المرحلة التي جعلت منه مولانا الرومي ولم يعد بعدها محض فقيهٍ ومشرعٍ يسأله السائل عن فتوى ويجيب ويعتلي منبره ليخطب في الناس، وكان اللقاء العظيم الذي غير مجرى حياة مولانا وقلب حياته رأساً على عقب بفيض وجداني شهودي نقله إلى عالم الملكوت واجتاز به أقصى المسافات الكونية برفقة شيخه الجديد شمس الدين التبريزي.
قرر الأفلاكي (تلميذ ابن مولانا سلطان الدين ولد) في كتابه مناقب العارفين أن تاريخ دخول شمس التبريزي إلى قونية كان سنة (642هـ/1244م)، وتم اللقاء بينهما، ووصف المستشرق الإنجليزي ر.أ.نيكلسون شمس التبريزي في مقدمته لكتابه “غزليات مختارة من ديوان شمس تبريز”، بقوله: “لقد امتاز بحماس روحي شديد، مصدره الفكرة التي استولت عليه فجعلته يتخيل أنه مبعوث العناية الإلهية، وقد استطاع بواسطة ذلك أن يسيطر على كل من قدم عليه أو دخل في مجلسه، وفقره المدقع وموته العنيف شبيه كل المشابهة بالفيلسوف “سقراط”، فكلاهما استطاع أن يكشف لنا عن خطل العلوم الظاهرة، وعن شدة حاجتنا إلى التثقف والتنور، وعن قيمة الحب في حياتنا، وأن الانفعالات الشاردة والتحديات الجاهلة للقوانين الإنسانية إنما تؤدي إلى فقد الاتزان العقلي، والسمو الأخلاقي، اللذين هما مقياس التمييز بين الحكيم والمريد”.
انقشع أيها الحُزن من الصدر
فلطف المعشوق على وصول
هو شمس الدین محمد بن ملك داد التبریزي (582/645هـ)، رجل ستيني جاء من تبريز بعد أن أجهد شيوخ تبريز بالمناظرة والمجادلة، وقد ذاع صيته كواحد من مجادلي شيوخ الظاهر، ووصفه الأفلاكي بأنه عارف فارسي جاء وغاب بظروف غامضة وتقول بعض المصادر إنه دفن في “خوي”، ومن ألقاب شمس “قطب الصوفية” و”سيد أولياء الله” و”إمبراطور مجانين العشق”، واللقب الذي أعجب مولانا واعتمده هو “شمس تبريز”. وقد قال فيه:
شمسُ تبريزٍ مُطْلَقُ النور
شمسٌ أشرقت من نور المُنير
وذكر الأفلاكي أيضاً أن سلطان الدين ولد -ابن مولانا- قال إن شمس التبريزي قال لأبيه “عندما كنتُ طفلاً كنتُ أرى الله وعالم الغيب العلوي والأرض السفلي، ومنذ ذلك الوقت وأنا تائه هناك، ووجدتُ هناك أناساً يشبهونني جميعاً، لكن شيخي أبو بكر منعني عن قول هذا(3). وتعلم شمس على شيخه أبو بكر سلَّه باف “مدة طويلة وسلك على يده بعضاً من الطريق وربّاه روحياً”(4).
وحول التشكيك بحقيقة شخصية شمس التبريزي، تقول الباحثة ليلى أنفار صاحبة كتاب (الرومي.. دين الحب): “خير دليل على أن شمس كان شخصية حقيقية وليس مجرد أسطورة كما زعم البعض، هو اكتشاف مقالاته في الأربعينيات ونشرها في السبعينيات”.
أنا عبد عينك، الثملة الغافية
روايات كثيرة تحدثت عن لقاء مولانا بشمس التبريزي، خالط بعضها الجنون والأسطرة، وجاء بعضها مقبولاً وموثقاً، رغم ندرة المؤرخين لشمس، بين المصادر الفارسية والعربية.
شمس يبيع الحلوى
من شطحات رواة لقاء مولانا وشمس، ما ذكره الرحالة الشهير ابن بطوطة بعد أن زار قونية، وقد زارها ابن بطوطة بعد موت مولانا بـ60 سنة، وقد قال ابن بطوطة أن مولانا كان بين تلاميذه ودخل عليه شمس بهيئة بائع حلوى ويحمل طبقاً منها على رأسه، فأعطى مولانا قطعة من هذه الحلوة، وأكل مولانا منها ولحق بشمس وغاب عن الناس سنوات طويلة ليعود بعدها مولانا وهو يصدح بشعر الطلاسم الذي لم يفهمه أحد في ذلك الوقت “مثنوي معنوي”.
شمس يبلل الكُتب
وفي رواية أخرى، دخل شمس على مولانا وهو بين مريديه فأخذ الكتب التي معهم ورمى بها في بركة الماء الموجودة في فناء المسجد، وبعد أن ضج المريدون من فعلته وغضب مولانا، مد شمس يده إلى البركة وأخرج الكتب منها دون أن يمسها الماء. فصعق مولانا ومن حوله وتعرف بشمس الخارق.
شمس يحرق الكتب
وفي رواية ليست بأقل غرابة من سابقاتها، دخل شمس على مولانا وهو يجلس وحيداً في غرفة الدرس وحوله الكتب، فسأل مولانا عن الكتب بشيء من الاستهزاء: “ما هذا؟”، فأجابه مولانا: “هذه كتب العلم”، فنظر شمس إلى الكتب وأشعلها بنظرة عين.
رواية الروايات
وأنتَ يا شمس سادن أسرار الرسول
واسمك العذب ترياقٌ يحيي كل مفقود
تتفق الروايات التي تتحدثُ عن لقاء مولانا وشمس التبريزي على أسماء وأسئلة واحدة بصيغ مختلفة وبدايات ونهايات وفق اختلافات الرواة وليكون كل واحد منهم صاحب قولة مميَّزة، وحول سيناريو اللقاء لنا أن نضع الكلمات والأسماء والأسئلة الدلالية التالية في سياق اللقاء:
(بايزيد البسطامي)، (الدابَّة التي يركبها مولانا)، (هيئة شمس ولباسه)، (أسئلة شمس واستنكاره)، (صدمة مولانا)، (سبحاني ما أعظم شاني)، (ألم نشرح لك صدرك!)، (محمد صلَّ الله عليه وعلى آله وسلم)، (ما عرفناك حق معرفتك)، (السؤال بحد ذاته)، (العلم والعظمة)، (الإجابة بذاتها)، (السبق في السؤال).
ووفق تحليل المضمون والنظر إلى كل كلمة ودلالتها، نحن أمام لقاء قطبين من أقطاب العرفان والمعرفة والعشق، وعلى صعيد الأعلم والأعرف لنا أن نحدد السائل والمجيب ومن يكرر السؤال ومن يصدم ومن يجهل الإجابة، فمولانا لم يتربَّ التربية الروحية بعد، وشمس عارف قطب جاب البلاد مجابهاً أهل الظاهر وهو من ربي مولانا وحوله من الفقيه المحافظ على علوم الشريعة إلى قطب من أقطاب علم الحقيقة، وتشترك الروايات في هذا السياق، ولو لخصناها جميعاً لكنا أمام:
كان مولانا الرومي يعتلي دابَّته (البغلة لأن العلماء لا يركبون غيرها) بين الناس، وإذ برجل ستيني هيئته غريبة وفيه من الإبهام ما يشد الناظر، وكان مولانا حينئذ فقيه الفقهاء وشيخ المئات ومقصد الباحثين عن العلم، فنادى شمس “يا فقيه المسلمين!”، بشيء من السخرية التي عرف بها شمس مذ كان في قونية وهو يخاطب علماء الظاهر، باعتباره قادماً إلى مولانا – تحديداً- وهو منهم حتى الآن، ونظر مولانا إلى المنادي ليعرفه ويسمع ما يريد، ظناً منه بأن المنادي رجل من عامة الناس يريد أن يستوضح غامضاً أو طالب علم يسأل شيخه في أمر، فسأله شمس “أيهما أكثر علماً، محمد صلَّ الله عليه وعلى آله أم بايزيد البسطامي؟ فتلعثّم الرومي قليلاً من غرابة السؤال، فهو يعرف كما يعرف الجميع أن محمداً سيد الخلق أجمعين وأعلم خلق الله، لكن المقارنة وهيئة السائل الغريب دبَّت فيه الحيرة، فرد قائلاً: أين بايزيد وأين محمد من المعرفة والعظمة؟ كإجابة ضمنية تفيد “طبعاً محمد الأعظم”.
فسأل شمس سؤالاً آخر “لماذا قال محمد: ما عرفناك حق معرفتك، وقال البسطامي: سبحاني ما أعظم شاني”؟
احتار مولانا في أمر هذا الرجل، وبدأ يدرك خطورته وعمقه، فلم يجد جواباً، فأجاب شمس نفسه: أما البسطامي فقد ارتشف رشفة من كأس المحبَّة وسكر بها حتى انجذب ومسَّه سكر أكبر منه، وأما محمد فقد شرب من كأس المحبة ما شرب لكنه لم يسكر به لأن الله شرح له صدره.
قونيَّة تشتعل
يا هوس قلبي تعال تعال تعال
يا مرادي ومبتغّاي تعال تعال تعال
أُخِذَ مولانا ولم تهدأ حواسه وانفجر نهر عرفاني في أعماقه، طار مع سطوة الحاضر الذي بيَّن له بعده عن الحقيقة ومكوثه بين تفاصيل لا يعول عليها، رق قلب مولانا وخطفه وهو على أبواب الأربعين كطفل صغير، هيمن على كل حواسه ورمى به من أعالي السدرة المشتهاة، وترتب على هذا الانشداه أن يبقى مولانا برفقة شمس في خلوتهما أربعين ليلة دون طعام وشراب بين الجدران الوضعية وفي معراج روحي براقه شمس والهائم على وجهه فيه مولانا، تائهاً في عالم الهدأة والسمع والهواتف والفراديس، وبدأ مولانا يردد شعره للمرة الأولى، رغم أن الشعر كان بعيداً عن الفقهاء وشبه مثلبة على كبار القوم في ذلك الزمن، وقد انداح مولانا بكامل الجذب والتماهي مع العوالم النوارنية التي رماه صوبها شمس.
هائمٌ في هواك من رأسي حتى قدمي
ولن أرفع رأسي عن قدمك ليل نهار
ذاع صيت شمس التبريزي وتحدَّثت كل قونية عن الرجل الذي سلب عقل وفؤاد مولانا، وتعطلت حواس مولانا باستثناء قلبه، صار كل شيء وحي جذب، والجذب عناية كما قال العارف ابن عجيبة وهو غياب الحس بالكلية لترادف أنوار المحبة والعشق، وأي أنوار هذه التي جعلت سماء مولانا مجمراً لشمس التبريزي، فعلى مدار خمسة عشر شهراً لم يفارق مولانا شمسه وظل كالصوفة المطروحة في حضرة من صافى شيخه فصافاه، ولو لم تكن الاستجابة حاضرة لكان محض لقاء بين ضدين في شرف الشريعة، الأول يعلم علوم الظاهر وينغمس في القشور حكماً ودرساً والثاني مجبول بالحقيقة وعلومها وثمل في كأس محبَّة يرتشف منه ما تيسر لصدره أن يستوعبه، لكنهما خلدا الشراكة الروحية ين جسدين فانيين وروحين خالدتين.
العشقُ قاهرٌ وأنا مقهورُه
كسكر ذاب حلاوةً من ملوحة العشق
تماهى مولانا مع شمسه وقال فيه 43 ألف بيت من الشعر في ديوانه الكبير بعد الانقلاب الهائل الذي حدث لمولانا ووصفه حدَّ نهاية الصفات، أما شمس فيقول عن مولانا: “إذا سألت كيف عرفت مولانا فقل إنما أمره إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، وإن سألت عن فعله فكل يوم هو في شأن وإن سألت عن الصفات فقل هو الله أحد وإن سألت عن اسمه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم، وإن سألت عن ذاته فليس كمثله أحد وهو السميع البصير”.(5) وكذلك الحال، كان مولانا يعتبر شمسه الخضر عليه السلام ونقل عن مولانا أنه رأى نقشاً على يد شمس المباركة يفيد بأنه الخضر بينما كانا في الخلوة.(6)
أرخى الليل سدوله على كعبة العاشقين
اعتلى عدو الشمس فوق سقف وأغلق عينيه وقال: “لقد قتلت الشمس”.
من قال لكم أن شمساً مات؟ كيف يموت الخالد المقيم؟
وبينما كان مولانا منغمساً بتعلم علم الحال والأحوال ويتعلم جلسات السمع والحكم ويسلك الطريق على يد شيخه، غاب شمس بشكل مفاجئ، قال بعضهم إنه مات مع قتلى الفتنة العامة في قونية، وقال آخرون أنه سافر وعاد إلى حيث كان، وغلبت رواية القتل سائر الروايات بقولها إنه قتل على يد بعض الحساد ممن لم يعجبهم ملازمة شمس لمولانا ولأنه أخذه من مريديه واستحوذ عليه.
هلمَّ أيها الصحب أعيدوا حبيبنا
أعيدوا لي آخر صنمٍ اعتاد الفرار
صعق مولانا ولم يصدق خبر الموت، و”أرسل ابنه سلطان ولد ومعه عشرين فارساً إلى دمشق ليبحثوا عن شمس بعد خبر وصل إلى قونية مفاده أن شمساً هناك، وأعلن مولانا عن مكافأة قدرها ألفي دينار لمن يعود بنبأ عن شمس”(7).
يا إسرافيل قيامة العشق
أيها العشق الحق ومُراد العشق
وفي روايات أخرى، ذهب مولانا إلى الشام (حي الصالحية) للبحث عن شمس، دون فائدة، وعاد بعدها إلى قونية مكسوراً وثملاً بالشوق، فزاد سعير نار العشق بالشوق وغلبة الفَقد، ولجأ مولانا إلى جلسات السمع التي أصبحت بعدها عمود طريقته الصوفية الخاصة (المولوية) ليخفف عن نفسه حدَّة مصابه الجلل بغياب شمسه.
في السمع والرقص ليل نهار
كقمر يدور يطوف حول الأرض
وبدأت علاقته بصاحبيه العارف صلاح الدین زرکوب والعارف وصديقه وحبيبه حسام الدین حسن الچلبي تتأصَّل بعد غياب شمس، ليسد بعض الفراغ الي خلفه شمس في حياته بصحبتهم، لكن شمس كان جرحاً لا يمكن علاجه، رحل وترك وارءه مولانا كالطفل التائه، وبدأ ينظم الشعر دون توقف، ليل نهار، بوجهه الأصفر واضطرابه الدائم.
وفي آخر أيامه كان يطيل في خلوته ويبالغ في جلسات سمعه ويصفر وجهه يوماً بعد يوم، ووفق روايات ابنه سلطان ولد كانت عائلته تستخدم الماء الساخن لمساعدته على تحريك عنقه التي تجمدت من برد قونية بعد سجدة بدأت في أول الليل واستمرت حتى الضحى في آخر أيامه، فهي سجدة عاشق ممتلئ، تجاوزت السجود بالرأس وهي محور انحناء الروح وكسر القلب تقرباً من صاحبه.
كتب مولانا 70 ألف بيتاً من الشعر، أي أن نتاجه الشعري أكثر من الإلياذة والأوديسا معاً، وكان لشمس وحده 43 ألف بيت كتبت حزناً على فراقه، وبعد أن اشتد المرض على مولانا ختم حياته بجملة واحدة، قائلاً: الأرض الآن جوعى، وعمَّا قريب ستلتقفُ لقمةً دسمة، ثم يهدأ اضطرابها، ومات بعدها بأيام عن 68 عاماً.
فجعت قونية واهتز العالم الإسلامي بعد غياب مولانا الذي قال فيه آخر عظماء الشعر الفارسي عبد الرحمن الجامي “لم يكن نبياً لكنه أوتي الكتاب”، مات الذي قال فيه الشاعر العظيم محمد إقبال “صيَّر الرومي طيني جوهرا * من غباري شادَ كوناً آخر”، وكان يصفه في شعره بـ”حكيم الروم”، بعد أن زار إقبال في المنام وأمره أن يشعل القلوب، وفق معراج إقبال المشهور “جاويدنامه” أي رسالة الخلود.
أعلن الحداد التام في قونية أربعين يوماً، وشارك في الجنازة اليهود والمسيحيون قبل المسلمين وغاب مولانا جسداً مجاوراً سدرة العشق، وأمست قونية كعبة للعاشقين من كل مكان.
محالٌ أن يتقولبَّ العشقُ في قالب
فالعشقُ بحرٌ بلا قاع
المصادر والمراجع:
1- آن ماري شيمل، الشمس المنتصرة، دراسة في آثار جلال الدين الرومي، ترجمة (عيسى علي العاكوب)، مؤسسة الطباعة والنشر التابعة لوزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، الطبعة الأولى، 2003 م، ص 193.
2- فريدون بن أحمد، سپهسالار، زندگینامه مولانا، ناشر: إقبال، تهران، چاب چهارم، سال نشر: 1378، ص 5.
3- مقالات شمس تبریزی. شمس الدین محمد تبریزی. تصحیح وتعلیق محمد علي موحد، چاپ دوم، تهران: 1377 سازمان چاپ وانتشارات وزارت فرهنگ وإرشاد إسلامي، جلد أول ص. 20.
4- حسين، حافظ الكربلائي، روضات الجنان وجنات الجنان، بنگاه ترجمة ونشر كتاب، سال انتشار 1349، ص 22.
5-. مولانا وطوفان شمس. عطاء الله تدین. تهران: 1372، انتشارات تهران. ص.307.
6- شمس الدین، أحمد الأفلاکي، مناقب العارفین، تحقيق (تحسین یازیجي)، طهران، الطبعة الثالثة، 1996، ص349.
7- الأفلاكي، مرجع سابق، ص 688.
(*) ترجم أبيات الشعر الفارسية لمولانا كاتب المقال.
*شاعر ومترجم من الأردن.
شاهد أيضاً
العولمة بين الهيمنة والفشل
(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …