حدث ذات مرة في الأناضول.. كوميديا سوداء!




مهند النابلسي*


خاص ( ثقافات )

“حدث ذات مرة في الأناضول”: فيلم تركي حاز عام 2011 جائزة التحكيم الكبرى لمهرجان كان، وهو كوميديا سوداء تدور أحداثها في أجواء من الواقعية الساحرة. أدناه عرض للفيلم ومقاربة تحليلية مع أربعة أفلام أميركية.

ملخص الفيلم:

يصور الفيلم الذي يستغرق عرضه أكثر من ساعتين ونصف، أحداث قصة شبه حقيقية تتناول قيام مجموعة مكونة من ضابط شرطة، ومدعٍّ عام وطبيب، بالإضافة لحافري قبور ورجال شرطة وشقيقين متهمين بالقتل (أحدهما معاق)، حيث تتجول ثلاث سيارات في المناطق الريفية للأناضول بحثاً عن مكان دفن جثة، وتكمن المفارقة الكوميدية في عدم تذكر الجاني لمكان دفن الجثة بسبب تناوله المفرط للكحول ليلة الجريمة، كما أن هبوط الظلام وتشابه الملامح والتضاريس البصرية صعَّب من اكتشاف موقع الدفن.

بحث عن الذات والآخر

تكمن عبقرية هذا الفيلم الطويل اللافت، في تحول رحلتهم البوليسية هذه لرحلة اكتشاف للذات والآخر، حيث يجبرهم تجمعهم القسري والنادر طوال ليلة كاملة ونصف يوم آخر، لمناقشة مواضيع عديدة متداخلة ومتشعبة، منها كيفية تحضير اللبن، إعداد لحم الضأن، مشاكل التبول والبروستاتا، شؤون العائلة وقصص الزوجات والأطفال، المغامرات النسائية، الموت والانتحار، التراتبية الوظيفية والبيروقراطية، عناصر السلوك القويم، ما يصح وما لا يصح، ثم يناقشون بإسهاب تفاصيل عملهم اليومي. وقبيل الفجر يتوقفون في قرية مجاورة لتناول الطعام، وبعد الوجبة يتم تدريجياً اكتشاف ملابسات الجريمة ليلة وقوعها، حيث أقدم الجاني وشقيقه على قتل الضحية بعد توثيقها وهو في حالة سكر كامل، ويكشف سراً كبيراً عندما يعترف بأن ابن الضحية هو ابنه غير الشرعي، “فتش عن المرأة” يقول مفتش الشرطة معلقاً.

تكمن روعة هذا الفيلم في التفاصيل التي قد تستدعي الملل في أفلام كثيرة أخرى، ولكنها هنا جاءت لافتة وجذابة وحافلة بالحوارات الطبيعية والإيماءات المثيرة للاهتمام: فعندما جلبت جثة القتيل للمشرحة، طلب المحقق من زوجة الضحية التعرف على جثة القتيل، فأجابت بعد تردد غامض وكأنها لا تعرفه، ثم طالب من كاتب السجلات أن يعطيها مقتنيات القتيل وملابسه، ودار قبل ذلك جدال مجازي حول تأثير عقار معين وتسببه عند أخذه بجرعات زائدة في حدوث جلطة قاتلة، حيث يبدو (وهذا هو السر الثاني الذي نكتشفه في سياق القصة) وكأن زوجة المدعي العام نفسها، قد أقدمت على الانتحار بتناولها لهذا العقار، ومباشرة بعد ولادة ابنتها، وكأنه احتجاج صارخ فيما يبدو على علاقات زوجها النسائية المتعددة، ثم يعلق المدعي العام بسخرية حزينة: كم أن النساء قاسيات وينتقمن بطريقة غريبة.

أما المفاجأة الثالثة في هذا السرد السينمائي الواقعي الجميل، فتكمن في اكتشاف جراح المشرحة لوجود غبار في رئة الضحية، مما يعني أنه دفن حياً، ولكنه لأسباب غامضة (وربما إنسانية)، وبطريقة غير متوقعة يمحو الطبيب المسؤول هذا الاكتشاف من سجلات التحقيق، ونشاهده يتابع من خلال النافذة، وبنظرات متعاطفة الأرملة المسكينة وابنها (ذا الاثني عشر عاماً) وهما يسلكان منحنى زراعياً باتجاه بيتهما، وحيث نلاحظ الفتى الصغير يرد بلا مبالاة كرة ضالة لمجموعة تلاميذ يلعبون في مدرسة مجاورة، راكضاً ببراءة للحاق بوالدته.

وقائع حقيقية ونمط تشيكوف السردي

نشأ المخرج نوري بيليج سيلان في بلدة صغيرة تتشابه لحد بعيد مع البلدة التي شاهدناها في الفيلم، وخاصة فيما يتعلق بالعقلية السائدة وهموم البشر واحترام التراتبية والبيروقراطية، وقد اعترف بأنه يرتبط شخصياً مع أنماط الشخصيات التي يتحدث عنها. لقد بنى الشريط على وقائع حقيقية، كما أن أحد كتَّاب القصة كان طبيباً حقيقياً، وبغرض الحصول على رخصة ممارسة الطب، فقد تطلَّب الأمر أن يقوم بالعمل لعامين متواصلين في مستشفى البلدة المحلي. أما عنوان الفيلم فهو مشتق من ملحمة الغرب الشهيرة (في ستينيات القرن الماضي) للمخرج الإيطالي الراحل سيرجي ليوني “حدث ذات مرة في الغرب”. تم إدخال عناصر درامية نابضة بالحياة مشتقة من وحي قصص الكاتب الروسي الشهير أنطوان شيكوف، وأنجز التصوير خلال أحد عشر أسبوعاً في مواقع مختارة حول بلدة “كيسكين”، وهي تابعة لمنطقة كينكالي في وسط الأناضول.

جائزة مهرجان كان وأربع جوائز عالمية

يحتوي الفيلم على تحدٍّ واضح يكمن أولاً في طوله الذي يتجاوز الساعتين والنصف، وفي نمط تطور الأحداث خلال الساعة والنصف الأولى من التصوير الليلي، ومن ثم بعد انبلاج الفجر لليوم التالي، وبطريقة اعتماده للزمن الواقعي- الحقيقي لمجريات الأحداث. وبالإضافة إلى كون الفيلم يوثق زمنياً للأحداث بشكل تصاعدي- درامي، فإنه لا يتبع نمطاً تقليدياً في السرد السينمائي، حيث تحدث الأشياء برتم طبيعي، ودونما مداخلات وحذلقات سينمائية إبهارية، من هنا فإنه يعتبر فيلماً ريادياً، وقد استحق بجدارة جائزة التحكيم الكبرى في مهرجان كان، بالإضافة إلى أربع جوائز عالمية أخرى (كآسيا باسيفيك ومهرجان كارلوفي) كما أنه حصل على خمسة ترشيحات دولية كأحسن فيلم وأحسن سيناريو.

لقطات لافتة

يحمل هذا الفيلم بعداً إنسانياً نادراً من حيث تعاطفه مع القاتل، الذي يكاد بدوره أن يصبح عضواً في فريق البحث، كما أنه كان يشعر بالندم والذنب الشديد، وقد ثبت فلسفياً أن الندم هو أسوأ تجربة حياتية يمر بها الإنسان، وتنضوي أحداث الفيلم تحت عنوان الكوميديا السوداء، فهناك لقطات عديدة تبعث على الضحك والسخرية، ومنها اهتمام السائق (واسمه عرب) بجني الثمار البرية (كالتفاح وغيره)، والعودة بها كغنيمة من رحلة البحث هذه، حتى أنه لا يكترث بوضعها مع الجثة في الصندوق الخلفي للسيارة، كذلك يتطرق للنمطية والبيروقراطية السائدة في التحقيق الجرمي، ونرى التزاماً تلقائياً طريفاً مع التراتبية الوظيفية، فالكل يعرف دوره ومكانه، ولا أحد يحتقن أو يلوم، فعندما يكتشف ضابط الشرطة أنهم لم يجلبوا كيساً لحفظ الجثة، لا يغضب ويثور كالمتوقع في هذه الحالة، وإنما يطلب منهم اللجوء لخيار آخر عملي، حتى الميت بدوره يبدو حضوره طاغياً بالجو المأساوي الذي أضفاه على رحلة البحث هذه، حيث يظهر “كالغائب الحاضر”.

وعندما يشكو جرَّاح المشرحة للطبيب المسؤول من “تواضع” أدوات التشريح مقارنة مع مستشفى آخر بالمنطقة، لا يهتم هذا الأخير بهذه الثرثرة، ويطلب منه الاستمرار بعمله، حيث يباشر هذا الأخير بتشريح وتقطيع الجثة وكأنه جزار ماهر يجهز خروفاً بعد ذبحه. ونرى الدم يتطاير على وجه الطبيب وملابسه، ونكاد نشعر أننا نرى المشرح وهو يجمع الأحشاء والقولون، على الرغم من كوننا لا نرى ذلك بأعيننا. يبدي الجميع تعاطفهم مع القتيل وطريقة توثيقه القاسية، وبالمقابل لا نرى إلا ضابط الشرطة يصرخ مؤقتاً في وجه الجاني بعصبية، كما تبدو الأحداث تنساب بشكل تلقائي، وكان ما يجمع هؤلاء الأشخاص هو الروابط الحياتية- المعيشية – اليومية، كما يهيمن شبح الموت على أجواء البلدة الصغيرة، ونرى القروي الكريم يستغل فرصة هذا التجمع النادر، لكي يطلب إقامة مشرحة عصرية وثلاجة حديثة كبيرة، لأن رائحة الأموات الخانقة (حسب تعبيره) تفوح في البلدة قبل وصول الأبناء من ديار الغربة البعيدة، لإلقاء النظرة الأخيرة على جثامين الآباء والأمهات التي تبقى بانتظارهم قبل الدفن، وهو يستغل بسذاجة القروي البسيط فرصة الوليمة هذه لكي يعرض جمال ابنته، ويسوقها للزواج، حيث نراها تدور عليهم بأكواب الشاي، فيما لا يتورع معظمهم عن اختلاس نظرات معبرة لوجهها الجميل.

دراما ريفية- ساذجة

يتجلى مغزى التصوير الليلي والانتقال تدريجياً للصباح في حبكة القصة، حيث يبقى الموضوع غامضاً، ومن ثم تتجلى تفاصيله تدريجياً مع انبلاج ضوء الشمس في اليوم التالي، وهناك لقطات رائعة تتمثل في الإضاءة الليلية الأخاذة، التي استغلت فيها مصابيح السيارات وحركات الظلال وضوء القمر. وعكس معظم الأفلام الأمريكية والأوروبية التي تعرض في مهرجان كان، فالفيلم لا يحتوي على حبكة سينمائية غامضة، ولا على مطاردات بالسيارات وعلى على قصة حب جارفة، ومشاهد جنسية صريحة أو مجازية، وإنما هو شبه تسجيلي – واقعي لمجموعة موظفين بيروقراطيين يسعون معاً بهدوء لكشف ملابسات جريمة قتل ليست مثيرة إطلاقاً، بل إنها مجرد دراما ريفية لجريمة قتل عادية، ولكنها تدهشنا بطرحها الذكي الهادئ المتضمن للعديد من المعاني الإنسانية السامية والمشاكل اليومية الحياتية البسيطة.

أما الشخصيات الرئيسية الثلاث في الفيلم، فقد كانت أيضاً عفوية وبارعة وتكاد لا تصدق أنهم يمثلون، وهم رئيس الشرطة الحازم والعصبي يلماز أردوغان، والمحقق الساخر والمرح تينار بريسيل والذي يعتقد أنه يشبه الممثل الأمريكي الراحل كلارك جيبيل، والطبيب الشاب الحزين والواثق من نفسه محمت (محمد) أزنير، وتكمن المفارقة اللافتة هنا في أن رحلة الاكتشاف هذه لم تتجاوز في واقع الأمر أكثر من سبعة وثلاثين كيلومتراً، كما علق أحدهم بسخرية، فيما بدت وكأنها رحلة أسطورية لا تنتهي للطرف الآخر من العالم.

كما أن المغزى العميق يتجلى في سعيهم لاكتشاف ما هو أكثر من مجرد جثة رجل ميت، وتتجلى الكوميديا في التعليقات اللاذعة التي تتناول كل قضايا حياتهم اليومية، وفي التوقف المتتابع للقافلة حتى يتمكن المحقق من التبول.

التشابه الإبداعي مع شريط “لا بلد للرجال العجائز”

ملصق فيلم نو كانتري فور أولد منيبدو فيلم “حدث ذات مرة في الأناضول” كعمل سينمائي غير مسبوق، وربما يتشابه لحد ما بنمط القصة وأسلوب الإخراج وطبيعة الأجواء مع الفيلم الأمريكي الشهير “لا بلد للرجال العجائز”، وبغض النظر عن التفاصيل، فالفرق الجلي بين العملين، يكمن في أن فيلم الأخوين جول وايثان كوين (Ethan Coen; Joel Coen) يترك لدى المشاهد النبيه الانطباع بكون الشريط كله مجرد مزحة سينمائية مرعبة غير قابلة للتصديق، أما في فيلم المخرج سيليان فأنت بالحق تعجب كثيراً بشغفه الكبير تجاه أبطاله وواقعية الأحداث، وتكاد ترغب بالعودة ثانية لمشاهدة هذه التحفة السينمائية، تماماً كما هو الحال مع الفيلم الأمريكي. نال فيلم الأخوين كوين “لا بلد للرجال العجائز” أربع جوائز أوسكار في العام 2008،

يتناول الفيلم باختصار قصة رجل عادي تقوده الصدفة للاستيلاء على ثروة طائلة ليست له، حيث يتورط تلقائياً في مطاردة مرعبة (ضمن لعبة القط والفار)، وذلك عندما يلتقي بالصدفة مع ثلاث رجال في صحراء غرب تكساس (نفس التضاريس الطبيعية لأرض قاحلة)، حيث يتمكن عابر السبيل هذا من الحصول على ثروة بمليون دولار وهي محصلة صفقة مخدرات إجرامية، وجدها بالصدفة في إحدى السيارات مع جثث أشخاص وكلاب مقتولة في وسط الصحراء.

وعندما يحاول اغتنام الفرصة والاحتفاظ بالمال، مرسلاً زوجته للإقامة الآمنة عند أمها، ومحاولاً الهرب والاختباء في نزل على الطريق، مخفياً كيس النقود في أنبوبة التهوية داخل غرفته، ولكنه لن ينجو من مطاردة قاتل مأجور مرعب (قام بالدور جافير باردم) الذي يلاحقه بلا هوادة، ويقتل كل من يجد في طريقه ببرودة أعصاب وبطريقة مبتكرة تحبس الأنفاس. لقد تم إخراج هذا الفيلم المقتبس عن رواية شهيرة بنفس العنوان، بطريقة “تطابقية” نادرة للحفاظ على روح وتفاصيل النص الروائي الأدبي.

يركز هذا العمل السينمائي المبهر على أهمية عنصر المكان (كما الفيلم التركي) والصدفة البحتة في تحديد مصائر الناس، وهذا ما نجده أحياناً في الحياة، كما يتطرق بشكل مجازي معبر لطبائع البشر المختلفة سواء الخيرة أو الشريرة، حيث نجد الرجل السارق للمال يعود خصيصاً لموقع المجزرة بغرض مساعدة جريح مكسيكي وإرواء عطشه تنفيذاً لرغبته، ولكن بعد فوات الأوان حيث يجده وقد أسلم الروح، كما أنه يركز على أنه “لا يوجد مهرب وشيء مجاني في الحياة “. فلكل شيء ثمنه الذي قد يكون باهظاً.

يختلف الفيلم التركي عن الفيلم الأمريكي اختلافاً كبيراً بواقعتيه المدهشة والاستثنائية، وبافتقاده للنمط الأمريكي المثير والمكلف في الإخراج الحركي– الدرامي، وفي إظهار مشاهد القسوة الإجرامية بسادية عجيبة، والغريب أن الممثل الإسباني الشهير جافير باردم أبدع في تقمص شخصية القاتل المأجور، على الرغم من أنه (حسب تصريحه) لم يستخدم بندقية في حياته، ولم يسق سيارة، كما أنه حتى لا يتحدث الإنجليزية بطلاقة.

تيمة الدفن حياً

تظهر تيمة الدفن حياً في ثلاثة أميركية هي “اقتل بيل” و”الغراب والظلال المظلمة”، وهي أفلام إن شاهدتها قد ترغب في مشاهدتها مرة أخرى. لقد تناولت هوليوود، عاصمة السينما الأميركية، عبر العديد من أفلامها هذا الموضوع المرعب، ولكن ما يهمني هنا هو إلقاء الضوء على ثلاثة أفلام عصرية رائعة، تناولت هذه التيمة بطريقة مختلفة ومدهشة ومشحونة بالمغزى والمدلول الدرامي وحتى الكوميدي، ناهيك عن طريقة الإخراج المذهلة والحابسة للنفاس، التي تكاد تقنعك كمشاهد على الرغم من كونها غير منطقية ولا واقعية.

ومن الأفلام العصرية التي استعرضت هذه التيمة ببراعة متناهية، فيلم اقتل بيل (بجزأيه الأول والثاني 2004/2005) للمخرج الأمريكي كوانتين تارانتينو، حيث يتم دفن العروس (بطلة الفيلم الممثلة أوما ثورمان) وهي حية في حفرة عميقة وبعد توثيقها بإحكام، تقوم من داخل قبرها بسلسلة من الحركات البهلوانية الخارقة المستمدة من رياضة اليوجا والرياضات الشرقية – اليابانية، وبعد مشقة لافتة ومشاهد تحبس الأنفاس تتمكن أخيراً من الخروج حية وسليمة، لتفاجئ خصومها ومنهم رئيسها السابق، وتدخل معهم في معارك بهلوانية بالسيف تنتصر فيها.

لا يمكن منطقياً الاقتناع بمثل الحركات البطولية الخارقة، ولكن المخرج المتمرس والممثلة البارعة يقنعانك بهذه الإمكانية الخيالية الافتراضية، بالمقابل فالضحية التركي المسكين تم توثيقه بإتقان ودفن حياً، ومات ميتة مرعبة. أما المفارقة الفلسفية المجازية في الفيلم فتكمن في أن الفتاة (الخيرة) قد تفوقت على الأشرار وانتصرت عليهم، ربما عملاً بمقولة أفلاطون الشهيرة: لا تصاحب الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه، وأنت لا تدري.

أما في فيلم “الغراب” الذي يتطرق للأيام الأخيرة للشاعر الأمريكي الشهير إدجار ألن بو (Edgar Allan Poe)، الذي مات مبكراً في الأربعين من عمره في العام 1849، حيث يقوم قاتل متسلسل بارع باختطاف حبيبة الكاتب من حفل راقص لإجباره على مجابهته، ومن ثم يقوم بدفنها حية تحت الأرضية الخشبية لغرفته، سامحاً لها بالتنفس عبر شقوق مموهة، وينجح أخيراً باستدراج الشاعر والقاص البائس، ويعقد معه صفقة غريبة تسمح له بإنقاذ حبيبته مقابل تناوله لسم قاتل بطيء المفعول، وبالفعل تنجو الفتاة، ويتم العثور لاحقاً على إدجار الن بو بحالة صحية بائسة، قبل أن يتوفى في المستشفى بعد ساعات.

أبدع جوني كوساك في تقمص شخصية الشاعر الغريب الأطوار– المدمن للكحول، والغريب أن القاتل المتسلسل يستلهم معظم جرائمه وطريقة تنفيذها الغريبة من قصص بو نفسه المنشورة بالصحف في لعبة بوليسية متداخلة ومثيرة، كما أن عنوان الفيلم مقتبس من إحدى قصائد إدجار بو الشهيرة التي نشرت في العام 1845، وتكمن الكوميديا السوداء في ثنايا الفيلم المثير، ويتوجها البطل عندما يعد حبيبته بعد معاناتها المرعبة وتضحيته بنفسه لإنقاذها “بأنه سيتزوجها لاحقا في الجنة”.

أما الفيلم الرائع الثالث واسمه “الظلال المظلمة” ومن بطولة جوني ديب الذي يتماهى عادة بشغف مع أدواره الغريبة المتنوعة، فالأمر يتعلق بساحرة فتاكة خالدة، عاقبت ديب لتعاليه ورفضه العنيد لحبها في العام 1772، ولقيامه بتفضيل فتاة جميلة وبريئة عليها، وتمكنت أخيرا بسحرها الأسود الطاغي من أن تفجر حقدها الدفين تجاهه، وهكذا دفنته حيا بعد أن كبلته بسلاسل حديدية متينة، بعد أن حولته بسحرها الخرافي لمصاص دماء قاتل،

وتسنح له الفرصة بعد مئتي عام تحديداً وفي العام 1972، وبفضل “أعمال إنشاءات وحفر في موقع مهجور” تمس قبره المنسي، فيخرج متعطشاً للدماء من قبره الأبدي، مهاجماً بضراوة عشرة عمال مساكين لإرواء عطشه المزمن، ثم يحصل صراع مافيوزي-أسطوري جديد بين عائلته (التي تعمل في تجارة السمك) من جهة والساحرة المتنفذة التي عادت بشخصية جديدة مزيفة من جهة أخرى، رغبة منها لإحياء حقدها القديم ولتدمير عائلته ونفوذها،

ملصق فيلم دارك شادوزو الطريف أنها تتمكن منه للمرة الثانية (بالإيحاء والمعاشرة والسحر)، وتنجح بدفنه حياً بعد أن تغطي رأسه بسروالها الداخلي الأحمر (كتذكار للمغامرة العاطفية الأخيرة)، وذلك قبل أن ينجح صبي يافع من الأحفاد في فك قيوده وإنقاذه من الدفن حيا لمئتي سنة أخرى كما وعدته الساحرة الشريرة.

نجح هنا المخرج العبقري تيم بيرتون مع جوني ديب وباقي الفريق السينمائي في إخراج فيلم أسطوري حافل بالمؤثرات المدهشة، ومليء بالمشاهد المتنوعة الخارقة والقفشات الكوميدية المجازية، مستغلاً عنصر الزمن وعودة مصاص دماء مهووس وبرجوازي عتيق للعيش ثانية مع أحفاده في قصره القديم في سبعينات القرن الماضي، بوجود ساحرة خالدة حقودة مهووسة.

وقد مكنته الشخصيات المتعددة الخرافية والعصرية، ومستويات الأجيال، والصراع المزمن المتجدد لمعالجة سينمائية مجازية ممتعة ومشوقة لحالتي “الضوء والظلال المظلمة”، لكل الأسباب التي أسهبت في شرحها فأنت كمشاهد ذواقة سترغب في العودة ثانية لمشاهدة هذه الأفلام والتمتع بمكوناتها الفنية المختلفة، وفيها أيضا ما يفيد مهارات المهتمين بفن السينما في ما يتعلق بعناصر الإدهاش والإثارة والإمتاع والإقناع، وطرائق الإبداع والتجديد في فن السينما.

* ناقد سينمائي وكاتب من الأردن

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *