منتجع الساحرات


أمير تاج السر


كان عاماً عادياً، مثل معظم أعوام تجيء وتمضي، لا خطب جللا بمعنى الخطب الجلل، لا زلازل، ذات روح تدميرية، لا براكين خامدة أو مهتاجة، ولا مفاجآت يمكن أن تغير نمطاً متأصلاً لشعب ما، كأن تذوب الديكتاتوريات فجأة، في أنهار من الديمقراطية، كأن يعتذر الظلم المتأصل في الدنيا، للضحايا المظلومين، كأن يخاف الجوع، وتستحي قلة الحياء، أو تنفعل جماهير كرة القدم العريضة أمام فقرة ثقافية بلا جماهير في العادة، وردت في كتاب.

نحن في جزء يبتعد قليلا عن الشاطئ، في المدينة التي تقع على ساحل البحر مباشرة، يسميه سكان المدينة: {منتجع الساحرات} بلا سبب معروف أو موثق لذلك، ولعله ناتج من أسطورة أو خرافة، من تلك التي يتناقلها الناس عادة، وتسميه الأوراق المسجلة رسمياً في مصلحة المساحة، وإدارة الأراضي: {ساحة المزاد}.

كان في ما مضى بساطاً ذهبياً من الرمل الناعم، تفترشه البهجة الكبرى حين تأتي مواسم الأعياد، حيث تنصب فخاخ الرزق المتنوعة لتصطاد المعيدين، خاصة الأطفال.
تغرس الأراجيح الدوارة في المكان، تغرس لعبة المنطاد الطائر، والحصان العملاق ذي الأجنحة، وتنتشر ألعاب شعبية مثل الغربال، ورغاوي الصابون المبعثرة في الهواء، والطبق المكفي على جائزة يخمنها المشاركون، والتنشين نحو دائرة مرسومة على جدار خشبي، ببندقية محشوة بطلقات من الفلين، يأتي {حبيب الله المحبوب}، الحاوي، ذلك الطويل الأعرج، الغامض بحذائه الباتا المنقط، ولحيته الطويلة البنية وملابسه المزركشة الشبيهة بملابس النساء، من حيث لا يعرف أحد، يتوسط خيمة من القماش الأخضر، مزدحمة وضاجة، رسم على مدخلها، وجه شيطان أسود بعدة قرون وأنياب، كتب تحته: ابتعد من فضلك، يأكل النار وأمواس الحلاقة المسننة، يخترع البط والأرانب البرية، والسلاحف الملونة، واللمبات المضيئة بلا كهرباء، ويشق مرافقته القصيرة، الرشيقة جداً {سرسورة} إلى نصفين متساويين، في طقس مرعب ومرغوب من المشاهدين، في الوقت نفسه، ثم يذهب إلى حيث لا يعرف أحد، ويعود في موسم جديد.

كان أكثر ما يحيّر في طقس حبيب الله المحبوب، وصاحبته سرسورة أنهما لم يتغيّرا ولم يشيخا قطّ، برغم تردّدهما على مواسم الأعياد لأكثر من عشرين أو خمسة وعشرين عاماً، مساهمين بقوة في بهجة ثلاثة أيامٍ مختلفة يُنفقها الصغار والكبار على حدّ سواء، وأنّ أحداً لم يشاهدهما في المدينة أو أيّ مدينة أخرى، في غير مواسم الأعياد منذ أن ظهرا لأول مرة، وحتى اختفيا نهائياً.

عندما تغيرت طقوس العيد بتغيّر الزمن بعد ذلك، نفض جيوب الخواء من كل جديد ومبهج، واحتفى المحبوب وصاحبته الرشيقة، واقتصرت البهجة على مصافحات الأيدي، واللمعة الفقيرة في عيون الصغار، وجملتي: {كل عام وأنت بخير} و{بالصحة والسلامة}، اللتين يطلقهما الجميع آلياً، جاءت فكرة تحويل المكان إلى ساحة للمزاد من قبل مستثمرين، أذهلتهم مساحته، وأعجبهم موقعه القريب من وسط المدينة، وتجمّع المواصلات العامة إلى جميع الأحياء، وتمّ تنفيذها على الفور.

رتق الظل الذي كان ممزقاً أو منعدماً تماماً، بنبات اللبلاب المتسلق السريع النمو وفروع من شجر النيم الوارف، غرست بعناية، وخيام من القماش الباهت، الثقيل، يمكنها أن تساهم بالظل وإيواء السلع.

اخترعت نسماتٌ باردة، برذاذ من مياه الخراطيم المربوطة إلى سيارات شبيهة بسيارات الإطفاء، وأيضاً بجرادل من المياه الضحلة، جلبت من الخيران القريبة، وفي أيام قليلةٍ انتشر البيع والشراء كأنه كان موجوداً أصلاً ولم يوقد حديثاً.
بيعٌ وشراء وبيع وشراء أشدُّ… وقوافل من المال الحيّ تأتي راكضةً، من كل شبرٍ في المدينة، تلقي برحالها في المكان وتذوب…

كان الحكي المفترض أنه عاديٌّ، لا يتمُّ إلا بالصراخ، كذلك النداءاتُ على السلع المتنوعة، وأحياناً بالفوضى والنزق، ودائماً ما يوجد نصبٌ واحتيالٌ، وعراكٌ متكررٌ بسببٍ وبلا سبب، وتطرّفٌ أعمى في الجوع والشبع، وإفراز الغدد لأيّ نوع من الهرمونات، ومحترفون في حيل المزادات، بعضهم من أهل الساحل وبعضهم من المدن المجاورة ومن عمق أفريقيا والعالم البعيد أيضاً، يتكاثرون في المكان، يستبدلون أشياء عالية القيمة بأشياء تافهةٍ، وأشياء تافهةٍ بأشياء أتفه منها.

حتى مبيدات القمل والصراصير، ومزيلات العرق ومرطّبات الوجه والأجولة الفارغة، وحبوب اللقاح، ومدرّات الخصوبة لدى النساء، ومقويّات المتعة عند الرجال، كانت تحلّق، وسيارات الخدمة العامة القديمة، التي أعفيت عن العمل منذ زمن، كانت تجد من يسندها ويمسك بيدها في آخر العمر. ولمع في تلك الفترة أفرادٌ في المجتمع، ما كان لهم أن يلمعوا بهذه الصورة الفذة، لولا موهبة المزايدة الخطرة، حتى أنهم أصبحوا نجوماً تحيط بهم هالات الضوء، وتطاردهم الشائعات، وجيوش مصلحة الضرائب ودواوين الزكاة. لمع إبراهيم عبد الله لحية، المتخصص بالساعات والكاميرات الضوئية، وشعبان الضاحك، الذي كان في الأصل، صياداً للسمك، وتكتك، وابن النمل، والشيطان الرجيم، لاعبو كرة القدم السابقون، بطريقة أفضل من لمعانهم القديم، وكادت أن تلمع سمية مبروك، كأول امرأة تستخدم صوتها المغوي، الناعم، في المزايدة، لولا أن ورماً في اللسان، أصابها، فاختفت.

لم يكن غريباً قطّ أن تجد لصاً يسطو على بيتك في الليل، ويبيعك أشياءك المسروقة نفسها، في النهار، ومتسولاً صادفته عشرات المرات، في أماكن عدة، وأعطيته صدقاتٍ بدافع العطف، يصيح منادياً على خروف أسترالي، أو حلة ضغط من ماركة بريستو، أو دراجة نارية من نوع {فيسبا}، أو {ياماها}، جاء يستدبدلها بأخرى أنظف، وأكثر بريقاً، وقيل إن مرضى فقراء من عامة الشعب، جاؤوا وعلى ظهورهم أسرّة كانوا يرقدون عليها في المستشفى الحكوميّ الكبير، وألحفة كانوا يتغطون بها، وباعوها هناك، وألقي القبض على دايةٍ في قسم النساء والتوليد، كانت تعرض مولوداً غير شرعيّ للبيع كانت التقطته من أمّ صغيرة، طالبة في مدرسة ثانوية، أنزلته في المستشفى على عجل، وفرّت في إحدى الليالي.

ولن يستطيع من عاصروا فترة ازدهار المزاد تلك أن ينسوا ذلك اليوم الذي عثر فيه القبطان {دشدش}، خبير خطوط الملاحة الشهم، وقائد العبّارة الوطنية {جوردون باشا}، على نظارته الطبية الغالية، المفقودة منذ زمن، معروضةً للبيع بسعرٍ لا يمكن حتى أن تعرض به نظارةٌ طبية لمتسوّل، وكيف صاح الرحالة الموزمبيقي العجوز ناماتو كيجا الذي زار البلاد مرةً، وخصص وقتاً صغيراً لزيارة ساحة المزاد، متعجباً، حين شاهد تمثالاً متوسط الحجم لبوذا، من الخشب الداكن، نحتته زوجته منذ أربعين عاماً، ونحتت عليه اسمها، معروضاً لدى تاجر تحفٍ رخيصة، لم يسمع بموزمبيق، ولا ببوذا، ولا بزوجة رحالة عجوز هوايتها نحت التماثيل.

تلك الأيام كان للعملة الوطنية وقارٌ وهيبةٌ شديدان، وكانت للشراء قوة ضارية، وكان للقرش النحاسيّ العادي المتوافر لدى كل الناس، ابتداءً من المتسولين وعمال اليومية العاديين إلى رؤساء الحكومات، صوته الجهوري الذي يُسمع في أقصى بقاع الأرض.

في إحدى السنوات، عندما انتفخت حركة السفر من المدينة إلى العاصمة والمدن الأخرى، بعدما ازداد عدد السكان، وأنشئت الشوارع المسفلتة الممتدة، وضاق مكانها القديم الذي كان موقفاً صغيراً في وسط المدينة تقريباً، وأصبح من المستحيل احتواء الزحام ومضاعفاته من عراكٍ وسبابٍ وسرقاتٍ، واختطافاتٍ، واحتكاكاتٍ، وتحرشاتٍ جنسية، وضياع أطفال، لم تجد السلطة المحلية أنسب من ساحة المزاد لتحويلها إلى موقف لباصات السفر.

أعفيت أشجار النيم وأفراع اللبلاب المتسلقة فجأةً من خدمة بثّ الظل بفظاظة حتن جزّت من جذورها. أعفي الهواء الناعم، من النعومة بفظاظةٍ أيضاً، مزّق الضجيج المصاحب للبيع والشراء، بالضجيج المصاحب لحركة السفر، استبدلت أبسطة الرمال الذهبية بأطنان من الإسفلت، وطرد المزايدون المستقرون زماناً في المكان وأبوا الخروج طواعيةً، وتجمهروا يتمزقون غضباً، طردوا بكثافة الشرطة، والعصي المطاطية، والغاز المسيل للدموع، واعتقل من صنفوا منهم قادةً لما سمّي رسمياً تمرد ساحة المزاد، وشعبياً انتفاضة منتجع الساحرات، ليحاكموا بخشونةٍ في ما بعد.
——
الجريدة

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *