حدث في نهار الصيف


*سعدي عباس العبد

( ثقافات )

 بات الحزن شديدا لا يطاق .. يحفر عميقا في روحي مجرى طويلا لمرور الذكريات ..ذكريات تتدفق من تلك المصبّات , مصبّات تلك الايام السود النابضة بالحرمان والتوق واللهفة .. لهفة تنحدر بي إلى حافات الشوق , فيتضاعف الحنين اليها . فاشعر بجذوة تلك الايام ما زالت تلتهب .. فتتقد تلك اللحظات بوهج بوهج الايام , فاشعر بالحزن المحموم ينتفض لاذعا ويقودني الى تلك الصباحات العابقة برائحة الذكريات والاحلام المضيئة المتورّدة في مخيّلتي .. وإلى تلك النهارات المتألقة بوهج الرغبات .. الرغبات التي كانت مفعمة بتلك اللحظات النادرة من الالتحام الحميم ..يا لتلك اللحظات التي تلاشت في عاصفة من الخراب , خراب لم يترك سوى خراب . خراب كان ينمو باستمرار ويتناسل ويغدو اشد وحشة وشحوبا وقسوة .. خراب ! ينضح غربة ووحشة ولوعة ! .. الغرفة التي باتت موحشة اكثر واشد من أي وقت مضى .. كانت تصل الذكريات بخراب الحاضر في وشيجة من الوجع . وشيجة تسيّج روحي الخافقة في الظلام بجدار من الكدر واللاجدوى … كانت مخيّلتي تقودني باستمرار عبر ارتجاجت غامضة .. ارتجاجات تنبجس من تلك المسافات الحافلة بالذكريات .. تنأى بي حيث كانت الاحلام ترفل بألق الجمال والسحر , .. تنأى بي الى ذلك النهار المتألق النابض بلّهفة البكّر .. اللهفة التي غالبا ما تجيء في اوّل لقاء غرام …لقاء تشكّلت ملامحه في صباح ممتلىء ,مفعم برائحة شتاء بعيد ..شتاء كان الهواء فيه باردا يضوع برائحة الاشجار والارض البليّلة ..يهبّ لاذعا , فينسفح شعرها المتموج وينهمر في الفضاء الرطب , فتلتمع هي بقامتها الممشوقة الفارعة , تلتمع برمّتها في إضاء شديد الوهج للغاية !! كانت تتطلّع عبر المسافة الغائمة الفاصلة بيننا , تتطلّع للمدى , فالمح خيطا مشّعا من التوق ينبجس من عيّنيها ويضيء سائر ملامحها المفعمة برائحة المطر والعشب والاشجار .[ والتي ستبقى امدا طويلا تلتمع في ذاكرتي ] … عقب ذلك اللقاء تكرّرت لقاءات _ لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة _ كانت لقاءات مزدحمة بالاشواق ومكتظة بالنداءات والرغبات المتدفقة من اغوار خفيّة ! ..مازالت تلك اللقاءات عاصفة بتلك اللحظات المضيئة كما لو إني اتحسسها تنمو عبر كلّ تلك السنين والمسافات الموغلة في البعد , فاهجس برائحتها المضمّخة بانفاسها الرطبة كأنها تضوع الآن كأنها تخترق كل تلك المديدّات والسنوات وتفوح في فضاء الغرفة , ……. مازال ذلك النهار يلوح عبر ذاكرتي وهو ينهمر بكامل نوره على قامتها الممشوقة الفارعة الماثلة عند كتف النهر .. كان شعرها يخفق في الريح . عندما هويت براسها على صدري , فاحسست برائحتها تضوع من كامل شعرها الفاحم الملتف على جانب من وجهي , بقيت للحظة مغمورا بتلك الرائحة التي اوقدت اوار الرغبة المحمومة فلبثت ممسكا برأسها لوقت ينبض بالدهشة واللهفة , قبل ان تخمد جذوة الرغبة … ولما رفعت رأسي لمعت عيناها وانبجس خيط من نور اضاءة دموعها التي هطلت على خدّيها الموردّين على غير توقع ..وفوجئت بصوتها يختنق بجهشات راعشة .. فاصابني الخوف واخذني وعقدت الدهشة لساني ,الذي تخشب بغته , .. كانت النوارس تخفق في الريح . لما تناهى ليّ صوتها المخنوق .. كأنه يتدفق من اعماق النهر . سمعتها تطلب مني انّ اتركها وانها سوف تتزوج من رجل لاتحبّه اكّرهوها ذويّها على ذلك ..واننا سوف لن نلتقي بعد الآن ..واضافت : هذه رغبة أبي وليست رغبتي كما تعرف ,, هجست بحبل من الألم يلتف على صوتي وذكرياتي .. فمكثّت احدّق ذاهلا . فرأيتها تمدّ يدها الناعمة وتمسح على عينيها وانا ما زلت ساهما شاردا ابحلق ذاهلا .. فلمحت دمعة كبيرة ما زالت مشّعة عالقة في رموشها . مسحتها باطراف اصابعي … .. كنت اسمع انفاسها المتلاحقة تتصاعد في الهواء متناغمة مع وقع خطواتها الفاترة ..فاشعر بعاصفة من خراب تهب عبر دموعها وتنأى بي بعيدا عن احلامنا التي سوف تغدو محض ذكريات شاحبة .. لم انم في ذلك اليوم . كنت احس بدوّي مخيف يوشّ مكّث يتدفق من منافذ غامضة .!! لوقت متأخر من الليل .. وكم رغبت بفتح الباب المؤدي إلى غرفة امّي . واجري , اجري بكل ما اوتيت من شجن ولوعة وهناك ابكي بين ذراعيّها وفي حجرها . ابكي كما لم ابكِ من قبل , ابكي بكامل سنواتي وذكرياتي حتى امتلىء برائحة ذلك الطفل الذي كنته .
في نهار اليوم التالي , وجدتني اقف هناك عند النهر . لعلها تطل بقامتها الفارعة .. ولكنّها لم تجيء وفي النهارات اللاحقة داومت على المجيء الى النهر كنت خلالها انتظر ان تطل عليّ انتظر بلهفة وتوق ولكن دون جدوى .. مرّ وقت طويل جدا على ذلك اللقاء الاخير . لم ارها ابدا . حتى كان يوم , لا اتذكّر متى ؟ ولكن كان يوما من ايام الصيف الحارة , رأيتها برفقة رجل بدين عند باب الاورزدي 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *