نجيب نصير *
( ثقافات )
لا يقابل الإحتكام إلى التاريخ، احتقار التاريخ، فالسؤالين منفصلين تماماً وبغير صلة، كما أن الإحتكام إلى التاريخ لا يأتي إلا بالخذلان والفشل، فالناس ليست متصالحة عليه، ولا تقف منه موقفاً واحداً، ولا تفسره تفسيراً متقارباً، ولا تستخدمه في المواضع المناسبة له إن وجدت، ما يساعد على تفشي الفرقة والإنقسام، وكذلك إلى تفشي نزعة امتلاك الحقيقة والذود عنها، ضمن التجمهرات البشرية التي تمارس هذا الخذلان، كطوق نجاة من الإنمحاء كخصلة تقود إلى العنف شئنا أم أبينا، وهنا لا بد من نظرة إلى هذا (التاريخ) كما هو واقع بين ظهرانينا، حيث نتبين كتلة معلوماتية، لا هي بالعلم ولا في التراث، فهي في مكانة بين بين يسهل العبور إليها من أي طرف،وامتطائها والقول بها، كما أنها في نفس الوقت ليست بالتراث تماماً،بل هي جزء من أيديولوجيا تقديسية، تجعل من التراث وبالتبعية “التاريخ” مقدساً، منذ فترة معلومة ومحددة، ومن قبلها ينقلب إلى لا تاريخ بناء على تأثيمه، ليصبح الماضي ماضيين، واحد يستحق التأريخ والتتريث وآخرملغى، مع أنهما ينتميان إلى نفس البيئة الطبيعية، وإلى نفس الذهنية الثقافية المتوائمة مع تلك الطبيعة، وهذا ما يؤدي به إلى الإنقطاع عن العلوم الأخرى بوصفه هو نفسه علماً، ولكنه مبتعد ومستقل عن علوم الأنتروبولوجيا والأتنولوجيا والستايلوجيا والآثار…إلخ، كأمثلة عن بعض العلوم المرتبطة بعلم التاريخ، حيث يبدو (التاريخ) بين ظهرانينا كذريعة وحجة، أكثر منه كمعرفة يمكن لها أن تفاجئنا أو تدهشنا، فالكتل المعرفية التاريخية، لا تقودنا إلى معرفة أحوال الزمان والمكان (على الأقل في تناولنا الحالي لها)، ولا الظروف المعاشة التي ولدت ذهنية أنتجت بسلوكها ذلك التاريخ، بل نحن أمام أكوام من الطبقات والمدونات، ينسقف العمل عليها في مجرد تحقيقها من لدنها، في محاولة قصوى لنسب الكتابة للكاتب لا أكثر، أو اكتشاف بعض من أخطاء المواقيت والأيام أو بعض أخطاء وقعت في جغرافيا الأماكن، وهي مستتبعات شفهية لقول شفاهي تمت تثبيته بالكتابة، دون أي تعاقد معرفي، ليتحول التاريخ بتعريفه وبصفاته المتعالية، هابطاً من الأعلى الماضي إلى الأسفل الحاضر، لاغياً الدهشة المعرفية قبل الأسئلة، مكتفين بالقول أنه كان كذلك بشهادة تلك الطبقات والصحائف وعلينا الإحتكام اليه.
ربما قد نبدوا هازلين لو تساءلنا عن الشعر والشعراء، في بلاد الشام ومصر قبل وصول الشعر العربي إليهما، حتى ولو كان قصدنا المقارنة المعرفية، وقد نبدو عديمي الرؤية لو تساءلنا عن النثر العربي، في الجزيرة العربية في زمن البعثة المحمدية المباركة، ماذا نعرف عن السفر والمسافات والمخاطر والتراسل في تلك الأزمان (التاريخية)؟ ماذا نعرف عن الطبخ والنسيج والعمارة والمهن والعلاقات الاجتماعية اليومية؟ ماذا نعرف عن الحقوق والواجبات ومنظومة القيم وفعلها؟ لا شيء تقريباً، ليس لأنها غير موجودة، بل لأنه من الصعب درسها ، في إطار التاريخ، كعلم مستقل ذي أركان معرفية ووشائج بحثية بين العلوم، ومع أن هذا الكلام نسبي، ليس لأن التعميم قتال فقط، بل لأنّ هناك محاولات وجهود جبارة، وإن تك قليلة نسبياً، إلا أنها صنعت مقاربات معرفية حقيقية لهذا “التاريخ”، الذي نحتكم إليه في الشاردة والواردة، ولا ننس في هذا المقام،الكبير طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي (الطبعة الأصلية غير المنقحة أو المعدلة جذرياً)، فالتعامل مع التاريخ لما يزل عندنا هو تعامل شفاهي منبري، منفصل في منطوقه عن بيئته وظروفه، والأهم أنه منزّه عن المصالح، التي هي أصل كل اجتماع بشري، مما يجعله غير مرتبط بالتأريخ إلا في علة الماضي وحدها، وهذا الضعف الحالي (أرجو أن لا يستمر) يجعله مؤهلا لفعلين لا ثالث لهما، هما: إما العيش في الماضي، أو عيش الماضي فينا، وهو ما تثبتّه حالياً جلّ المنتجات الثقافية المقدمة لنا، على أساس أنها معلومات ومعارف، صالحة للعيش البشري المعاصر إذا أحسنا تطبيقها، لندخل ومن جديد إلى دائرة خلافات جديدة تستحضر الخلافات الماضية، وتزيد عليها من نيران الفرقة في ظلال التكنولوجيات المعاصرةالفتاكة.
ربما كان علينا اليوم أن نقف من التاريخ موقفاً علمياً ومعرفياً صافياً، غير مخلوط بتراث أو قداسة، فهذين لهما كيانهما وطرقهما بين العامة والخاصة، ولكن التاريخ كعلم، يجب التعامل معه كحدثٍ حصل في الماضي، يستفاد منه عبر تشاركية معرفية مع العلوم الموازية،لاستخلاص القوانين التي تروّض الطبيعة، لصالح الإنسان في سعيه الدائم نحو الوجود الإيجابي.
* كاتب من سوريا