“أجمل حكاية في العالم” .. ضحك كالبكاء


خضير اللامي


“إنّ في الوجود جانبا باطنيا ، لامرئيا، مجهولا، وانّ معرفته لا تتم بالطرق المنطقية ، العقلانية ..” (أدونيس)
رواية “اجمل حكاية في العالم” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2014 ، لميسلون هادي، تبدو لنا كل شخصياتها أبطالا، وليس ثمة بطولة فردية رئيسة فيها؛ ستة أبطال سابعهم السارد ؛ توزعوا على سبعة فصول، كل فصل تصدّره بطل واحد، يقتضي مقالا مستقلا به، وشكّل الابطال السبعة بطولة جماعية، تحركوا على متن الرواية يتقاسمهم مصير مشترك واحد، هو زجّهم في حرب التمرد الكردي بعد انسحاب العراق من الكويت.
كابدوا مواجهة الموت والمجاعة والهوان “لمدة ثمانية وثمانين يوما منذ هروبهم من المعسكر حتى يوم عودتهم انتهاء الحرب. بتنا بين الجوامع والبيوت، وأكلنا النباتات البرية والتراب”. وقرروا اللجوء – باستثناء شخصية حسن – الى بلدان الغرب عن طريق الصليب الأحمر المتواجد في منطقة ديالا شمال العراق، وهم على التوالي “حسن المؤدب، ومأمون الشاعر، وفيصل الفيلسوف، وناصر المغني، وفردريك المسيحي”. لكن في نهاية الأمر تراجعوا عن قرارهم هذا، والتحقوا بزميلهم حسن وعادوا الى بغداد، ومعهم الشاعر والتاجر وبائع اللبلبي باستثاء ياسين القجغجي الذي لجأ الى بوسطن.
ويبدو أنّ دافع الروائي الذي سرد الفصل الاول من الرواية تكفل سرد أحداث الرواية بالتعاون مع بعض الشخصيات الاخرى كما هو الحال في الفصل الأخير للرواية باستثناء بعض فصولها نيابة عن المؤلفة. وهنا، لا بد وأن واجهت الساردة المضمرة “المؤلفة”، صعوبة بايلوجية وسايكولوجية في تقمص دور ساردين ذكور نيابة عنها كما أرى؛ والعكس صحيح؛ ولكن رغم ذلك، يبقى المحرك الأساس في عملية السرد وتحريك خيوطه المتشابكة بيد المؤلفة. “سأحاول أن أكون معهم عندما يثيرون انتباهي للمسارات الافضل .. وانتبه الى أنّ الأكثر منهم يتخفّون خلف صفة تميزهم، لأمدّ يدي لأزيح الستار وأتعقب صفات وغرائز أخرى”.
وعلى كل حال، سطّرت ميسلون هادي في هذا العمل الروائي تراجيديا الشعب العراقي في عصره الحاضر، لتظهر لنا كوميديا عراقية من بين ثنايا تلك التراجيديا وبإسلوب ساخر وفكاهي أخّاذ حد اللعنة، لملحمة أولئك الجنود الهاربين من الدكتاتورية بوصفهم رموزا لتلك التراجيديا في حروبها وتفاصيلها وضحاياها وتدمير البلد والانسان في هذه الرواية.
وميسلون هادي بإحساسها العميق لما واجهت وواجهنا من صعاب ومظالم وتسلّط أنظمة غبية حكمتنا بالنار والحديد، واستلبت شخصيتنا، ومسخت هويتنا على مدى حقب وأجيال، فكان عليها أن تبحث عن معادل موضوعي للتعبير عن دواخلنا – غير تلك الوسائل والتعابير التي سئمناها – وعن تراكمات الهّم والغم والنكد عبر تلك الأزمنة العجاف، والتي تجسدت وسيلة تعبيرها تلك في هذه الرواية، رواية “أجمل حكاية في العالم” ببراعة فائقة،إذ لم يبق لدينا بعد مكابداتنا الطويلة في مواجهة من يهدد وهدد حيواتنا غير السخرية من الأقدار بدل الوسائل التعبيرية الجادة بأنواعها، وبعيدا عن الايديولوجيات والفلسفة الخ .. ليس هذا حسب، انما تناوبت اللغة الفصحى واللهجة الشعبية التعبير عن مصائر شخصيات الرواية وكل حسب منحدره الإجتماعي والثقافي.
ياسين يضيع في تلفات الدنيا، وفيصل الفيلسوف يقتل بعد كلمة حق قالها، ومأمون الشاعر يفقد الذاكرة ويصبح تحت رحمة زوجته المجنونة ملاك، وناصر المغني يشترك دون علم بجريمة قتل الفيلسوف فيصل، وحتى دافع الروائي فقد إحساسه بالزمن وسلّم مخطوطته الى حسن ليفعل بها ما يشاء.
وأعتقد أننا نتفق جميعا على رؤيا مشتركة للسخرية التي امتدت على مسافة جسد الرواية، فميسلون هادي روائية متمرسة ومؤسسة في هذا المجال بامتياز؛ ونضّجت باعتناء وعلى نار هادئة مثل هذه الشخصيات الساخرة وبدقة متناهية الأبعاد، وقد بدت لنا منذ أول وهلة، انسيابية في سياقاتها لما تملكه من تراكمات سردية وثقافية واجتماعية لتخلق مثل هكذا شخصيات وتحركها كما تحرك الشخصيات الكارتونية في الافلام ورسامة كاريكاتير بامتياز، بيد أنّ الفرق بينها وبين شخصيات ميسلون هادي هي أنّ الأخيرة تحرك نماذح بشرية بسيطة من دم ولحم تهدف من ورائها الى فلسفة هؤلاء البسطاء ومكابداتهم ومعاناتهم وظلمهم في الحياة وما حلّ بهم من طغيان الانظمة، وكانت سخرية الروائية هي تعبير عن الواقع التراجيدي الذي عاشته تلك الشخصيات.
وسخريتها في رواية “أجمل حكاية في العالم” هي ضحك كالبكاء. فهي تسخر حتى في حالة الجد في السرد، وتتحول بطريقة عفوية لتلتقط كلمات تعبّر عن سخرية ودرامية وفكاهة لا حدود لها، كي تبعث في داخلنا الانفراج النفسي والاسترخاء؛ ولا تتوقف عند هذا الحد كي تنضّج فكرتك للوصول الى ما تريد ان تقوله هذه الساردة. 
بل تترك ميسلون هادي وشمها في ذاكرة القاريء بقوة، لا تمر جملة ساخرة ونكتة وعبارة الاّ وهي مشحونة بالأسى والنكد من خلال سخريتها في هذه الرواية، التي كثيرا ما نتوقف عندها، وليس ثمة عفوية عدا عفوية السرد وسلاسة لا مثيل لهما في الادب الساخر، الذي يحمل في جوانيّه تراجيديا انسانية.
وهي هنا تقف في مصاف الأدباء الساخرين أمثال برناردشو ومارك توين والساخر العربي احمد رجب ومستر بين وشارلي شابلن في الدراما. وهي لا تألوا جهدا في سخريتها فإنّ عفوية تلك السخرية وموهبتها هما اللتان تحركان مشاعر الروائية ميسلون وهما متجذرتان في شرايينها؛ أنّها موهبة انفردت بها وبزّت الآخرين ولا أحد يضاهيها مطلقا بهذا الشأن. وهي فضلا عن ذالك، كتاب تراث شعبي مفتوح وأصيل بخاصة الساخر فيه، وربما هنالك الكثير من الشعر الشعبي التراثي حفظته ظهرا عن قلب، وبهذا فإنها تطعّم متن رواياتها بتلك الأمثال الرائعة. وقد اغتنت بهذه الأمثال حين كانت موظفة في مكتبة وزارة الثقافة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وبهذا اغنت أعمالها الابداعية بشذرات أسلوبها الفولكلوري إن صح التعبير.
والرواية من ألفها الى يائها سخرية وفكاهة ومرح، ولم يسلم من سخريتها حتى الفلاسفة، شوبنهاور، وهيغل، وكانت، وابن عربي، وافلاطون، وماركس، وسيد قطب، ونيوتن، وجاك دريدا الخ، كما لم يسلم من ازميلها الحاد لا البشر ولا الحيوان ولا النبات ولا حتى الحشرات ولا حتى الاسكندر المقدوني بعظمته. وهي تقول على لسان فيصل الفيلسوف الذي يعبر عن حال المؤلفة “لأني عندما اتكلم مثل أي احد، فإنّ لساني لا يطاوعني على الكلام، واكاد بعد ذلك ابكي من شدة الندم”.
ميسلون هادي حكّاية، تنقلنا في روايتها “أجمل حكاية في العالم” الى أجواء الماضي القريب، تتناول فيه أحداثا صغيرة او كبيرة لتضعها كقلادة نمنم على جيد فتاة حسناء، احداثا وقعت في الماضي تعبّر عن نكد ذلك الماضي ومآسي الحاضر. وانتحلت شخصية رجل تولى سرد رواية “اجمل حكاية في العالم” كي تتحدث بسلاسة الى ما تريد ان تسخر منه، ولم تكن ميسلون هادي تبسيطية في سخريتها على لسان شخصياتها التي قد نضحك كثيرا حتى نستلقي على ظهورنا؛ وهذا لم يكن سخرية من الضحك إنما هذا هو السطح الطافي فوق الجليد، اما الغاطس منه فهو ما نستقيه نصا آخر ربما يقودني هذا الى موضوعة النص المفتوح والنص المغلق لامبرتو ايكو أو الى اسلوب ارنست همنغواي الذي شبهه انه كالثلج الغاطس ثلاثة ارباعه تحت الماء والظاهر منه هو ربعه فقط. أما في رواية “اجمل حكاية في العالم” لميسلون هادي؛ انما كله غاطس تحت اعماق البحر وعلينا ان نتجشم عناء الإبحار كي نمتح من لؤلؤئه.
وهنا تؤكد قولنا هذا المؤلفة وعلى لسان دافع الروائي: إنّ الحد الذي تكتمل فيه الكتابة هو القراءة. وإنّ القراءة هي الجزء الأهم من الكتابة. فإيّ معضلة تلك التي تجعل الحدود صارمة للحكاية التي يرويها الكاتب، ثم يجيء دوري ودور غيري ليجعلها مترامية الاطراف حسبما تكون أهواء ومشارب كل واحد منا”.
وعلى كل حال، تعدّ أحداث رواية “أجمل رواية في العالم” من الروايات المغلقة او المدورة على نهايتها إن صح التعبير؛ أي أنها تنتهي كما ابتدأت وكما تقول المؤلفة “ماكو فايدة خوجة علي ملا علي.” أو “لو يجي الله ما ينعدل حالنا”، دلالة على الحال هو الحال نفسه؛ إن لم يكن الأسوأ.
وهذا النص الذي اختتمت واستهلت فيه الرواية بداية الرواية ونهايتها : وهذا ما حصل للجار المؤدب الذي نعس في الحافلة فنام في الحافلة، وبعد ان عرفت أنه مؤدب في اليقظة، اكتشفت أنه مؤدب في النوم ايضا، فقد جلس بشكل مرتب ليس فيه اي اعوجاج أو تجاوز، ثم بعد ذلك بوقت قليل غرق في نوم عميق دون ان يفتح فمه في اثناء النوم، مثلما نفعل نحن الرجال، كما لم يصدر منه غطيط ولا شخير ولا حس ولا خبر.”
وتبقى الحافلة تسير دون أن يستيقظ أحد فيها سواء في نومنا أو يقظتنا.
——–
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *