*عدنان الصباح
خاص ( ثقافات )
” إذا آمن الإنسان بأنه يتبع الحق فإنه لا يبالي بأي صعاب تقابله”
المهاتما غاندي
يوميا تؤكد الأحداث والتطورات الجارية أنه لا بد من إعادة فحص أدوات الكفاح الوطني الفلسطيني بما يكفل توفير الشروط الضرورية لأدوات الكفاح الناجحة والتي تتمثل بضرورة أن تتميز هذه الأدوات بالفاعلية وكسب ثقة وتأييد الرأي العام العالمي والتأكد من عدم كونها تعطي نتائج أكثر سلبية من الإنجازات فلا يعقل أن نقوم بعمل ثوري نضطر لأن ندفع مقابله ثمنا باهظا غير قادرين على الرد عليه الصاع صاعين.
وبنفس الوقت ضرورة أن توفر أداة الكفاح المستخدمة أوسع مشاركة شعبية وتوافق شعبي وتلغي ظاهرة إحلال البطل الفرد مكان المجموع وتغييب الجماهير عن المشاركة حسب إمكانياتها، إن ذلك يتوفر فقط بالكفاح اللاعنفي دون أن ينتقص ذلك من أدوات الكفاح الأخرى فلدى المحتلين أدوات عنف أكثر بكثير مما لدينا ولديهم حلفاء شر متعاضدين متكاتفين موحدين بينما معسكر الخير رغم ضخامته مشتت ومنقسم على ذاته ونحن كما يقول غاندي” لن نغلبهم إذا استعملنا العنف” لكن بإمكاننا أن نوقف آلة حربهم وأن نخرسها، إن نحن منعنا عنهم مساعداتنا وحول ذلك يقول المهاتما غاندي” لا تعتدوا عليهم.. يكفي أن تمنعوا عنهم مساعداتكم.. لا تعملوا.. تحملوا الجوع بعض الوقت لتعيشوا بقية العمر كرماء”.
فلقد كان الأجدر مثلا أن يمتنع أي فلسطيني عن العمل في بناء المستوطنات أو حتى في بناء الجدار, لم يخرج صوت فلسطيني واحد يحرم العمل في بناء الجدار العنصري ولم يخرج صوت فلسطيني قوي ليقول الخبز ببناء الجدار مغمس بالموت.
ليس للاعنف علاقة فقط بموازين القوى أو بالضعف المادي للجهة التي تستخدمه ضد أعدائها فقط ولكنه أيضا على علاقة وثيقة بموضوعة البناء الداخلي للمجتمع وإعادة تربيته وصياغة الأسس الناظمة للعلاقات الداخلية وطبيعتها, فاللاعنف وسيلة كفاح بمتناول الغالبية شبه المطلقة من الناس وهو لذلك يسلح الجميع بنفس السلاح ويدفع بالجميع إلى خضم معركة المواجهة مع العدو، في حين أن الوسائل الأخرى تعتمد على النخب المسلحة أو تلك التي تتخذ لها أسماء رنانه كالطليعة أو المبادرين أو حماة الوطن أو ما شابه, وهي تدريجيا تبدأ بالاعتقاد أنها مميزة عن العامة وأن لها الفضل الأول والأخير في حماية عامة الناس وأنها تحل محلهم في معركة الدفاع عن أرضهم وعرضهم وما شابه, ولذلك عادة ما تصم آذانها عن الاستماع لهم بأي شكل من الأشكال أو تبدأ باستخدام وسائلها في منعهم من إعلاء صوتهم؛ على قاعدة أنك ما دمت تنام في بيتك فليس من حقك أن تقول لي لا، أو ليس من حقك أن تعترض على طريقتي في العمل, ذلك ينطبق على الدول وجيوشها الرسمية وعلى الثورات ونواتها المسلحة, فالجيوش تلجأ إلى أنظمة الطواريء حين تفشل في إلحاق الهزيمة بالعدو الخارجي، كذا حصل بعد هزيمة 1948 وهزيمة 1967 بينما عاد عبد الناصر للشعب بعد إنجازات النصر في حرب 1956 وكذا فعل السادات بإطلاق الحريات الديمقراطية بعد حرب أكتوبر 1973 والي تراجع عنها كليا بعد تراجعه عن إنجازات الحرب.
في البداية اعتقد وأركان حكمه أنهم وحدهم صناع النصر وأن إطلاق الحريات جاء هدية من القائد المنتصر للشعب المسكين وحين قرر التراجع عن إنجازات نصره في كامب ديفيد وغيرها تنازل عن المنحة وعاد الى العصا وأدوات القمع خوفا من الشعب, هذا المثال ينطبق على نظام صدام في معاركه الخارجية وهزائمه المتلاحقة وكذا على نظام القذافي في معاركه الشخصية التي ليس لها أول ولا آخر, وعند كل هزيمة كان يعود لإثبات بطولته بقمع شعبه.
النموذج نفسه يتكرر في حالة الحركات الثورية, حين يترسخ لدى مجموعة ما, أنها صانعة الثورة وأنها حامية الوطن وأنها هي التي تملك القدرة وحدها على دحر المحتل، وأن على الشعب أن يقوم بدور التصفيق فليس بإمكان النساء والأطفال حمل السلاح في وجه الجيش، ثم تفشل هذه المجموعة في إنجاز شعاراتها الرنانه، فهي تبدأ بالاعتقاد وعن حق أن الشعب بدأ يهزأ بها وإن هي تركته لممارسة هزئه فسيبطش بها في نهاية المطاف ولذا تلجأ إلى ممارسة العنف ضد الشعب نفسه لإخافته وإجباره على عدم البوح بقناعاته وإلزامه بمواصلة صبغ صفة البطولة عليهم, مما يطيح كليا بالتوافق الوطني ويخلق حالة من الانقسام الداخلي تتعمق تدريجيا.
بعكس ما تقدم فإن استخدام وسائل اللاعنف حتى ولو لم يكن ذلك بديلا عن وسائل الكفاح الأخرى إلا أنه يعني المشاركة الجماعية في المعركة الوطنية، ويلغي الفرق بين النخبة والعامة، فالجماهير التي تخرج معا لتتظاهر وتعتصم وتضرب وتجوع علنا وفي مواجهة رصاص الأعداء لا يمكن إنجاز هزيمتها على الإطلاق، حتى ولو تمكن المحتل من دحرها إلى الوراء، ذلك أن الجموع تتراجع من الخارج ولكنها لا تخجل من ذلك ما دامت تفعل ذلك بشكل جماعي وعلني بل هي قادرة على معاودة الكرة وفحص التجربة وتلافي الأخطاء فلا أحد هنا ليهزأ من الآخر بل نحن معا نهزأ من الفشل أو من الآلية المستخدمة أو التكتيك المستخدم ونبحث عن البدائل, وتواصل ذلك يخلق حالة من التوافق الوطني وقبول الرأي والرأي الآخر بالتجربة والممارسة وتدرك الجميع أهمية إطلاق الطاقات الجماعية وأهمية تدارس التجربة وإيجاد الحلول, يذكر التاريخ جيدا الزحف العظيم الذي قاده المهاتما غاندي إلى “الترانسيفال” احتجاجا على السياسة العنصرية لحكومة جنوب إفريقيا واللغة التي خاطب بها قائد القوة العسكرية التي جاءت لقمع الجماهير فقد قال له” إنني لست مسيحيا كما تعلم .. ولكني أؤمن بأقوال مسيحكم عيسى وأقدسها وأنا لا أفرق بين الأديان فالمهم في نظري هو قوة الخير والأيمان بالله الأكبر, سأواصل مسيرتي وإذا صفعتني على خدي الأيمن سأدير لك خدي الآخر كما قال مسيحكم”.
إن إحلال النخبة أو البؤرة الثورية المسلحة والمنظمة كبديل لتنظيم الجماهير وصياغة مجتمع مدني فاعل ومشارك يقود إلى انقسامات حادة في المجتمع والى تدمير النسيج الاجتماعي العام, والنماذج كثيرة فغياب المشاركة الشعبية المنظمة بعيدا عن الهيمنة الرسمية لرأس السلطة قاد تلقائيا إلى تفرد الفرد وتنازليا موظفيه ثم أقاربه ثم بلدته ثم طائفته وهكذا, ولذا بدا الانقسام واضحا في المجتمع العراقي ضد السلطة أولا ورأسها وأجهزتها القمعية ثم ضد العشيرة التي ينتمون إليها، ثم أخيرا إلى الطائفة السنية لدى الشيعة والى العرب لدى الأكراد وغيرهم.
والآن وأيا كانت الخلافات حول تفصيل أنماط المقاومة العراقية والتفريق بينها فإن اقتصارها على مجموعات مختبئة وسرية مطلقه معزولة عن الجماهير وقضاياها جعل الأعداء يملكون مادة الهجوم على المقاومة وتشويه صورتها ولو أن جماهير العراق, نسائه وأطفاله وشيوخه شاركوا عمليا في مقاومة لا عنفية سلمية احتجاجية لكانوا أنجزوا قضيتين إحداهما لا تقل أهمية عن الأخرى.
الأولى: عزل الاحتلال وأعوانه من خلال نظام المقاطعة الشعبية مثلا مما يجعل الاحتلال غير قادر على وجود وكلاء له بكل البساطة التي تحدث في العراق وتجييش الرأي العام العالمي وخصوصا في بلدان قوات الاحتلال وفي مقدمتها الولايات المتحدة وتشكيل رديف حقيقي للمقاومة الموجهة ضد المحتلين الأجانب فقط والتي تشكل حماية لشعبها من بطش المحتلين وليس العكس.
الثانية: إن المشاركة الجماعية لكل فئات الشعب وطبقاته في الكفاح كل حسب إمكانياته المتاحة يلغي أية أفضلية تتمتع بها فئة على الأخرى ويساهم في تعزيز التوافق الاجتماعي وصيانة نسيج المجتمع أيا كانت تلاوينه, فالمشاركة في الكفاح والتساوي في تلقي القمع والاضطهاد والتساوي في استخدام الطاقات يذيب كليا جبال الجليد وترسخ المشاركة الجماعية التعرف على الآخر وقبوله كحقيقة وضرورة.
حين يفشل البطل الفرد يرفض الاعتراف بفشله وبالتالي فهو يجد أن الأسهل هو إرغام شعبه أو جمهوره على مواصلة الإقرار ببطولته ومن هنا يصبح عالة ومأساة وبدل أن يصبح الهم الوطني ضد المحتل هو الأساس, يصبح التخلص من جبروت الظالم مدعي البطولة هو الأهم ويتفرد المحتل بالشعب والأرض دون منازع حقيقي.
أما إذا فشلت حركة يشارك بها كل الشعب حسب إمكانياته وبوسائل لا عنفية لا ترهق الشعب ولا تستنزف طاقاته فان ذلك سيقود الجميع إلى التماسك أكثر والعودة لمناقشة أسباب الفشل جماعيا ومعاودة الكرة بعدة أفضل وبأدوات أكثر نجاعة وبتصميم جماعي أقوى, إن كفاح الجموع يجعل من الجماعة, من الشعب, البطل الوحيد وحتى لو تراجعوا ولم يحققوا انتصارا فرديا, لكنهم سيراكمون كفاحهم ويؤسسون لمواصلة درب لا تنتهي بالقضاء على البؤرة الصغيرة, قليلة العدد والمعزولة بل تؤسس لإرادة شعبية مهما ضعفت إمكانياتها إلا أن النصر حليف الإرادة الجماعية الصلبه والمتمسكة بالحق.