جيرار دي نرفال.. الشاعر المعلق فوق عمود عشقه الموؤود




«لا تنتظريني هذا المساء، فإنّ اللّيل سيكون أسود وأبيض». بهذه الرّسالة التي خلّفها وراءه، رحل نرفال عن هذا العالم في سنّ السّابعة والأربعين، في صباح مثلج يوم 26 يناير 1855.
في صبيحة ذلك اليوم، عثر عليه قرب قصر شاتلاي، متدلّيا في عمود مصباح كان أعلى منه، ولكنّه جعله أقرب إلى النّجوم؛ عمود مصباح تقول الشّائعات، بوّابة حديديّة هي الحقيقة المحزنة.
هكذا توقّف التّيه بحدائق التّويلوري، وانتهت رقصة ذكريات الطّفولة، ووقع خطى سلفي؛ كان اللّيل أبيضا والبرد لاذعا، فيما كان نرفال يتأرجح تحت القمر، أقرب إلى أسرار الرّوح التي كان يترصّدها.
لقد عاش بيننا إذن هذا المجنون المهيب، عاش وهو يجهد بكلّ ما أوتي من قوّة أن «يثبّت الحلم ويغوص في غيابة أسراره»؛ غير أنّه أبى الكشف عن تلك الأسرار.
«وإذا تبدّى لك خيالي كصورة عقيمة
آه.. فلتمكثي بلا خوف
لأنّ خيالي المعلّق بين خيالك والسّماء
سيمعن بلا ملل في اقتفاء أثرك».
كان هذا الشابّ المثير للشّفقة، الذي عاش كالبهلوان على الخيط الرّفيع لأوهامه، قد سقط من على هذا الخيط. لقد قضّى سنواته الأخيرة كمتسوّل مجذوب، منتبذاً النّاس في غابة رموزه وغراميّاته الموؤودة، وأضحى ـ وهو الذي كان ميسورا ـ يعيش على الكفاف، لا يحدوه غير الإيمان في الأبديّة.


كان يشعر بأنّه بات يعيش خارج عالمنا البائس، وبأنّه الحارس المختار، الخبير بتجلّيات الكون؛ فأيّ معنى بعد ذلك للمجتمع ونواميسه البرجوازيّة.
رؤى دي نرفال
جيرار دي نرفال، واسمه الحقيقي جيرار لابروني، ولد بباريس في 28 ماي 1808؛ ابن طبيب ملحق بالجيش النّابوليوني، وأمّ فقدها وهو لا يزال صبيّا في الثانية؛ نشأ وتربّى في مورت لا فنتين بإقليم لوفلوا المنمّش بغابات وبحيرات ألهمت الرسّام كورو. شغف بشعر غوته حدّ الجنون وتحمّس للشعر الألماني ليصبح مترجما مذهلا لهذا الشعر (ترجم فوست سنة 1828).
ثمّ كان حبّه المجنون للممثّلة كولون سنة 1826، التي كانت تزدريه وترى أن لا جدوى من هذا المهوس المفلس. وقد دفعه ذلك إلى الاعتقاد في خصوبة الخيال وفي الأنثى الخالدة لغوته، وحرص على أن يسربل ذلك الخيال بوشاح القداسة ليلفّ به تلك «الآثمة»؛ بل ذهب به الأمر إلى تخصيص مجلّة لها وحدها، بثّها وصفه العميق لحلم أوريليا سنة 1855. ومن هذا الوصف شاد نرفال رؤيته للعالم معتبرا أنّ الحلم هو الحقيقة وأنّ الواقع محض خدعة؛ وهكذا وجد نرفال ملاذه في الحلم.
وأثناء رحلته الطّويلة إلى الشرق سنة 1845، ازدادت قناعته بأنّ الحياة الحقيقيّة توجد في آفاق قصيّة أخرى، في العالم القديم الذي تغنّى به هولدرلين، في الميثولوجيا وآلهتها وفي إشراقات الباطن. ولم تكن تلك الرّحلة سفرا عاديّا، فطوال السنة التي استغرقتها، سيجدّ في البحث عن لغة العالم المخفيّة؛ فكان لا يلتمس دروبا في طبيعة الشّرق الغريبة والمبهرة، بقدر ما كان يتحسّس المسالك المشرّعة على الغيب؛ ولا يهمّ إن كان ذلك الغيب ضبابيّا.. غائما، فهو يتجاوز الصّور المنمّطة للرّومنطيقيين إلى صحراء خياليّة كلّ شيء فيها بيّن وشديد الوضوح.
«سألني.. إلى أين أنت ذاهب؟
نحو الشّرق..
وفيما كان يرافقني، كنت أبحث عن نجمة خيّل إليّ أنّني أعرفها، نجمة بدت وكأنّ لها تأثير ما على قدري. فجأة التمعت.. (ن)جمة وكشفت لي أسرار العالم».
ولم يجرؤ على كتابة كلمة نجمة بالكامل، وهو الذي كان مأخوذا برؤاه، بين حالة من الانتشاء والجنون، وهائما في البحث عن «وطنه الباطني». هكذا فإنّ الأشياء المخفيّة للعالم ستتحدّث إليه وإليه وحده.
«إنّ ماضينا ومستقبلنا لمرتبطان ومتداخلان. إنّنا نعيش في صلب الجنس الذي ننحدر منه وذلك الجنس يعيش بداخلنا».
بقي نرفال سائحا لمدّة عشرة سنوات، مستمدّا أسباب العيش من أعمال بسيطة، ومن العون الذي كان يجده لدى أصدقاءه وخاصّة تيوفيل غوتيي. وأحيانا ما كان الجنون الذي يعشّش بداخله، كبومة صبورة، يجد سبيله إلى التحليق؛ ومن لحظات إشراق باهرة، وجيزة وقاسية، ستولد أعظم أعماله: سلفي، بنات النّار، وخاصّة «الأوهام» هذا الصّرح الأدبيّ الغامض الذي لا يزال ينتصب بشموخ..
وهكذا تابع نرفال ترحّله ما بين احتجاز في المصحّات النّفسيّة وتجوال وتيه، حتّى واقعة الشّنق التي ستضع حدّا لمخرّم أوهامه؛ فلم يعد بوسعه العيش في عالم ضيّق، مجرّد من النّجوم، وخال من كلّ حضور إلهيّ.. سرمديّ؛ وجاء موت أوريليا أو محبوبته جنّي كولون، ليجعله أكثر تقوقعا في فردوسه الجديد هذا، وحيث يأذن كلّ شيء بالانبعاث.
«لا مكان للموت، لا مكان للأحزان، لا مكان للقلق، وكلّ أولئك الذين كنت أحبّهم، الأقرباء والأصدقاء، منحوني إشارات واثقة بأنّهم موجودون للأبد؛ أمّا أوريليا فقد كانت أقرب منّي في موتها من قربي أنا منها في الحياة».

على تخوم الغيب

لم تعد لحدود العالم الواقعي أيّة قيمة بالنّسبة لنرفال، وهو المحتشد بالأسرار والأرمل المثقل بالكآبة؛ كان يبحث عن نجمة، نجمة شرق يعيش فيه جنبا إلى جنب مع أعزّاءه من الشعراء الألمان نوفاليس وغوته وهولدرلين، وتنبعث في آفاقه حِكمُ العالم المخفيّ.
«الحلم حياة ثانية، وإنّني لأرتجف كلّما طرقت تلك الأبواب العاجيّة التي تفصلنا عن العالم اللاّمرئيّ».
كان نرفال يسعى إلى تهجّي أسرار المطلق، ويشعر بأنّه قد أخطأه، لذلك كانت تنتابه حالة حادّة من اليأس والإحباط؛ وكان ينشد غفرانا ربّانيّا لخطايا لم يرتكبها البتّة؛ وكمشّاء النّوم، كان يسير وكأنّه صنو شخص آخر، أبصر نجمة الصّبح تتعالى، وهو يسير على ساق واحدة في وطن الملائكة؛ وقد جعلته الحاجة الماسّة إلى تلك الرّاحة المستحيلة.. يقف على حافّة الفراغ.
«في الأحلام لا نرى الشّمس أبدا ولكنّنا أحيانا نستشعر فيها صفاء أكثر إشراقا..
ونرى فيها الأشياء والأجساد وامضة ومتوهّجة من ذاتها».
(أوريليا)
إنّه ينتصب اليوم في مجمع العظماء إلى جانب الشّعراء المنبوذين، وقد أشاد بعبقريّته ألفرد دي فنيي في «شتّرتون».
مبارك اليوم كمهرّب للجنون في الشعر، فإنّه يبدو وكأنّه الجانب المعتّم في وعينا؛ ولكنّه ليس بأمير الشّعراء وجماليّة أشعاره متفاوتة، ومع ذلك فإنّ الكثير منها مهيب وفي منتهى النّقاوة؛ ولئن كانت كتاباته لا تجديد فيها، فإنّها تنفذ بيسر إلى أعماقنا، توشّيها تلك الحيرة التي لا قرار لها، ولأنّ هذا الشّيطان البائس يحدو بنا إلى فردوس الكلمات، كلمات تشكّل وحدها في اللّغة الفرنسيّة رجع صدى لأشعار نوفاليس وهولدرلين.
ولكن لماذا لا تزال أشعار نرفال تفعل فعلها فينا، وهو الذي لم يكن مجدّدا في الكتابة الشّعريّة؟ لا شكّ لأنّنا نستشعر فيها ذبذبات الغيب بلغة خارجة عن حدود الزّمان، لغة مجلّلة بهالة من الكآبة السّحيقة؛ فقصائده تبدو أشبه بتنبّؤات تتردّد بإيقاع بسيط، تنبّؤات باسمة وملغّزة.
«و يغرق البحر في سرب من الفراشات البيضاء».
ولا يزال حديثه يستدرجنا لأنّه يبشّر بعودة الآلهة العتيقة، وانخراط الملائكة والجنّيات في رقصة واحدة.
«في الحركة الرّومانسيّة التي عبرها دون الانتماء إليها، يتبدّى دي نرفال وكأنّه حالة من التجلّي» (بيار جان جوف).
منتبذا كلّ شيء فإنّه كلّ شيء: همس النّجوم وموطن النّسيان والحرمان؛ فهو النّائم الذي بالكاد يستفيق وهو على حافّة الهاوية، وعربة عقله لا تنفكّ تدفع به من حفرة إلى أخرى. هناك يرقد وبفمه الطّعم المرير لحياة مطحونة وبيده سراج أشعاره.. وهو غير قانع بأنّه توفّق في إعادة تشكيل بداياتنا..
وتظلّ قصائده.. نفحات من تجلّياته ولفحات من زفراته، ولكنّها زفراتنا نحن أيضا..
دفعه حبّه المجنون للممثّلة كولون التي كانت تزدريه بسبب هوسه وإفلاسه إلى الاعتقاد في خصوبة الخيال
تمثل حياة ونتاج الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال، مزيجا من نزعات الانكفاء والانفتاح، الكآبة الكامنة والبحث عن الفرح العزيز، العشق في أبهى صوره والنكران المميت. وإن لم يكن دي ترفال من أمراء الشعر في القرن التاسع عشر، لكن شعره تميز بشفافية وقدرة على اختراق المشاعر. وستظل قصة رحيله معلقا نفسه على بوابة حديدية، صبيحة يوم صقيعي، الفصل الأكثر قسوة وشفافية في حياته.
هنا إضاءات على حياته شعره، ومختارات من قصائده.
بوكس مع موضوع دي نرفال
قطوف من شعر
جيرار ردي نرفال
من الحلم الطّافح إلى رؤيا ما بعد الرّؤية*
الحلم حياة ثانية، وإنّي لم أفلح، دون ارتجاف، في اختراق الأبواب العاجيّة التي تفصلنا عن ذلك العالم اللاّمرئيّ. إنّ اللّحظات الأولى للنّوم تتبدّى كصورة للموت؛ حالة من السّكون المعتّم والغائم للفكر؛ ولا قدرة لنا كي نحدّد بدقّة اللّحظة التي تواصل فيها الأنا، بشكل آخر، إنتاج الوجود؛ إنّه قبوٌ سُفليّ غامض وضبابيّ، يغشاه الضّياء شيئا فشيئا، وتبرز في ظلاله وعتمته الوجوه الشّاحبة والسّاكنة التي تعمر عالم النّسيان؛ ثمّ تأخذ اللّوحة في التشكّل، وينبجس ضياء جديد.. ساطع، يجعل تلك الظّلال والأخيلة الغريبة تنبض وتتحرّك؛ هكذا ينفتح أمامنا عالم الأرواح..
* الصّفحة الأولى من «أوريليا» أو «الحلم والحياة»
الدسديشادو (El Desdichado)*
أنا المتجهّم ، الأرمل الذي لا شيء يعزّيه،
أمير أكيتان المتهاوية أبراجه:
لقد ماتت نجمتي الوحيدة، وعوديَ الموشّى بالنّجوم
غـدا يحمل الشّمس السّوداء للكآبة.
فيك أنت.. وجدت السّكينة والسّلوى
في وهـدة القبر وليله المعتّم؛
أعيدي إليّ ساحل بُوسيليبْ والبحر الإيطاليّ،
الزّهـرة الأثيرة لقلبي الكئيب
والكرمة النّشوى التي تعانق أغصانها الورود.
أو أكون الحبّ أم فوبوسْ؟ أو أكون لوسينيانْ.. أم تراني بيرون؟
لا يزال جبيني مخضّبا بحمرة شفاه الملكة التي قبّلتني؛
لقد حلمت في الكهف حيث تسبح الحوريّات،
وعبرت مرّتين نهر أكيرون منتصرا:
معدِّلا على قيثارة أورفيوس،
تارة تنهّدات العذراء.. وأخرى صراخ الجنّيات.
* «الأوهام» (1854)
دلفيكا
دفْناي، هل تُراك تعرفينها تلك الأنشودة العتيقة
بجوار شجرة الجمّيز أو تحت أشجار الغار الأبيض،
في ظلّ شجرة الزّيتون أو أفياء الصّفصاف المرتعش،
أنشودة الحبّ تلك، التي لا يزال صداها يرنّ في الآفاق؟
هل تراك تعرّفت على ذاك المعبد وبهوه الرّحيب،
واللّيمون المرّ الذي كان يحتفظ بآثار شفتيك،
وذلك الكهف القاتل للزوّار الطّائشين
حيث صُرع التنّين وترقد البذور العتيقة؟
لسوف تعود تلك الآلهة التي ما فتِئْتِ تبكينها..
وسوف يعيد الزّمن رتق ما انمزق في الأيّام الماضية؛
فالأرض تجد سلواها في هبوب أنفـاس النبوّة،
غير أنّ سِبيلْ ذات الملامح اللاّتينيّة،
لا تزال غافية تحت قوس قسطنطين
ولا شيء أربك سكينة رواق المعبد المتجهّم
الأبيات الذّهبيّة
يا أيّها الإنسان! يا من رزقت فكرا حرّا 
منفلتا من كلّ عقال!
أوتحسب أنّك وحدك قد أوتيت منّة التّفكير
والعالم من حولك يتنفّس الحياة
كعرف مزهوّ.. غضّ.. عطير
بالحريّة التي وُهبت
قد تدبّر الأشياء التي رهن يديك
ولكنّ سعيك يظلّ أنّى جهِدت، عدمٌ
في ميزان الوجود النّابض من حواليكْ
ألا فاحترم في الحيوان ذكاءه الفاعل
وفي الزّهرة روحها المتوثّبة
التي تمتلئ حياة، فترقص وتتمايل
ولتتأمّل في المعدن السّاكن
ليلوح لك سرّ من أسرار المحبّة 
في جوهره، ضامر.. باطن.. كامن
كلّ الإشياء في هذا الوجود بالحياة نابضة
وهي لوجودك العابر لا محالة قاهرة
لتخش في الجدار الذي تظنّه غير مبصر
عين لا تني تترصّدك.. وأنت عنها ذاهل
واعلم أنّ كلّ ماهو كائن.. رهين إرادة سالفة
فلا تجعلها مسخّرة لأغراض سفليّة.. آثمة
غالبا ما ينطوي في كلّ كائن معتّم إلاه
وكعين تتشوّف للنّور وتلبّدها الجفون
تنبثق الرّوح المحضة.. انبثاق الحجر من لِحاهْ
ممرّ في حديقة لكسمبورغ
ها قد مرّت تلك الفتاة العذراء
منتشية.. مندفعة كالطّائر المزهوّ.. الطّليق
بيدها زهرة مشرقة.. حمراء
ومن حنجرتها ينساب نغم فائح.. رشيق
قد تكون الوحيدة في عالمنا الرّحيب
من استجاب قلبها لنداء قلبي الكئيب
جاءت لتلج ليلي المعتّم الحزين
ولتبثّه الضّياء.. بآيات تناغمها الرّخيم
ولكن كلاّ! لقد ولّى شبابي وانقضى
فوداعا أيّها الشّعاع السّاطع في الفضاء
عطرٌ، تناغمٌ، عذراءْ..
سعادة غامرة.. منخطفة، تجلّت لحين
التمعت.. التماع البرق في حنايا القلب
لتتوارى كالرّؤيا.. وتسلمني لحزني الدّفين 
بوكس مع موضوع دي نرفال
مابين شطآن الجنون والمياه السّاكنة للعقل
بقلم: تييرّي كابو
«أوريليا»، «رحلة إلى الشّرق»، «بنات النّار»، تلك أعمال باذخة وبالغة الّرّشاقة، انغمر فيها دي نرفال بأجمعه. وقد تمّ التّنويه بنثره الشّفيف، المشرق، العذب السّيولة، والذي أضحى نموذجاً لغويّاً يستمدّ منه القارئ سعادة لا حدّ لها.
في «أوهام» يتذكّر نرفال بأنّه شاعر، وأيّ شاعر كان! فبعد قصائده الغنائيّة القصيرة، ومقاطع مختارة خطّها بريشته الفاتنة، انتقل فجأة إلى عالم جديد، تتداخل فيه الرّؤى، والإحساس بالكآبة؛ وفي عمق ضباب اللاّوعي، سيزداد شعره كثافة وعمقاً؛ هناك، من كآبة ذاكرته الحادّة، ستطفو في الحلم ذكريات الماضي؛ فكتب حينها سونِيتاته (السّونيت، قصيد من أربعة عشر بيت) الملغّزة، التي كان يعشقها بروست، سونيتات ثقيلة بثقل الغموض الذي كانت تنطوي عليه، متوهّجة في صمت، وكأنّها منغلقة على ذاتها، زاخرة بالرّموز والأسرار، ومصوغة بأسلوب ممغنط، تبدو فيه الصّور الحالمة، الملقاة على بياض الصّفحة، وكأنّ لها قوّة اتّحاد ذريّ.
«أنا المتجهّم، أنا الأرمل الذي لا يعزّى»
وترنّ بعد ذلك أجراس تلك الأبيات ذات الجماليّة السّاحرة.
«آل دسديشادو».. يفتتح الحفل على شكل سيرة ذاتيّة حالمة وشاعريّة، ونرفال، بطبعه النّاعم والرّقيق، يحملنا هنا إلى آفاق ساحرة، حيث يغدو كلّ شيء ممكنا، شريطة أن نؤمن به؛ أمّا الإشارات الأسطوريّة العديدة التي توشّي أبياته، فإنّها تنصهر بذكاء في بوتقة الفنّ، وتشرّع أمامنا أبواب اللاّوعي، ذلك المكان الذي في رحمه يتشكّل عالم المثل؛ وإنّه لمن الصّعب تصوّر كتابة بمثل تلك القوّة والكثافة. أمّا الاضطرابات النّفسيّة التي كانت تنتهبه، فإنّها لم تقلّل البتّة من ألق وسطوة تلك الكتابة، بقدر ما ساهمت في مزيد توهّجها، لتحتفظ «الأوهام» عبر السّنين بكثافة أسرارها وعمقها الذي لا يضاهى.
ما بين شطآن الجنون والمياه السّاكنة للعقل، لا يتوقّف سريان السّحر، وكأنّ الشّاعر وهو يتأرجح في كلّ الاتّجاهات، قد أدرك بطريقة لا شعوريّة، مكمن نقطة التّوازن الكفيلة تحقيق التّناغم بينهما، وتوحيدهما بالتّالي في نشيد واحد يتجاوزهما. لا شكّ في أنّ نرفال قد حمل بداخله منذ أمد بعيد الأبجديّة الغامضة لمثل تلك الأحلام، قبل أن تهديه علامة قويّة إلى تثبيتها وترسيخها إلى الأبد، على مثل ذلك النّحو الرّائع والمبهر.
ثمّ كانت تلك النّهاية المفجعة؛ لقد عثر عليه متدلّياً في بوّابة حديديّة، في ليلة شتاء مثلجة، ثمّ تناساه الجميع.
_______
*المصدر: الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *