سلالم للهبوط وأبواب للخُروج


*خيري منصور


من ولد من أبناء جيلنا في قرى كانت تعج بكل ما أفرزه الليل ما قبل الكهرباء، من أشباح وكائنات غامضة وحكايات شهرزادية تؤجل الموت، كان النهار بالنسبة إليهم هو شهريار الذي يشهر سيفه ثم يغمده، فيما تواصل الجدات والأمهات الصغيرات سرد الحكاية، وهي على الأغلب عن شاطر وغول وحسناء، ما تسلل من مسامات الجسد والروح معاً في تلك الأيام تحول إلى وشم في الذاكرة، ومنه ما حولته كيمياء الحياة إلى فوبيا تستثيرها كلمة أو رائحة أو ضوء شاحب من قنديل عجوز، لكن مشهدا واحداً كان الأشد إثارة وتحريضا للخيال الطفولي هو صراخ النساء وعويلهن بين ليل وآخر، لأن أحد الأبناء قتل وهو يحصد أو يقلم شجرة أو لأنه فقط حي يسعى.
لم نكن تلك الأيام نعي أسباب البكاء على اختلاف درجة ملوحته، وأدركنا بعد ذلك، وعندما بدأنا نلثغ بالنشيد وما يردده الشجر من حفيف أن الحياة تقع على مرمى رصاصة من كمين إسرائيلي، وعلى مرمى حجر من ذلك الطفل المسحور الذي تقول الحكاية إنه يتخلق من نعاس القرية، وينتظر أهلها كي يناموا ثم يبدأ العزف، والأرجح أن حفيف الشجر وما يتخلله من صوت كائنات ليلية لها صفير متقطع هو أصل الحكاية.
بالأمس حين استشهد فتى من بلدتي، وهو قاب عامين أو أدنى من سن البلوغ، أحسست ببقعة دم ساخنة تلسعني في خاصرتي، وللحظة أدركت أن الرصاص الذي قتله أخطأني عندما كنت في مثل عمره، فنحن جميعاً محكومون بالإعدام لحظة الولادة، ومنا من ينفذ فيه الحكم وهو في رحم أمه.
الدموع التي شاهدتها تسيل من عيني والدته أعادتني إلى تلك الدموع السّوداء التي سالت من عيني صبية تحول الكحل فيهما وحولهما إلى لؤلؤ أسود، لم تكن في ذلك الضحى الدافئ من صيف فلسطيني مبلل بالندى على موعد مع النبأ، ثم علمت بأن أباها ما أن فتح الصّرة لتناول الإفطار تحت شجرة على الحدود حتى غرق الرغيف في الدم وكان الفطور الأخير لكن بلا حواريين.
من أخطأه الموت من جيلنا عليه أن يسدد المديونية لمن قضوا وهم على تخوم الصّبا، بل عليه أن يعتذر عن كونه حّياً، هذا ما أحسسته وأنا أعود بالذاكرة نصف قرن إلى تلك الظهيرة السّوداء في قرية أضاءها قمر على غير عادته في ليل بلا كهرباء، فأحيانا توقظ فينا صَرْخة ثاكل ما أيقظته كعكة بروست في الذاكرة، فيكتب ما لا يحصى من الكلمات كي يترجم صمتا هجع زمنا تحت لسانه.
في تلك الظهيرة، شاهدت رجالا يحملون سلّما خشبيا ويركضون به كما لو أنه تابوت فارغ إلى حيث تنقّع الخبز بالدم، ثم حملوا الشهيد عليه والدم يرشح من الخشب، فكان السؤال الذي لم أجد حتى الآن إجابة عليه وهو هل تصلح السلالم للصعود أم للهبوط أم للحالتين معا؟
كان مشهد السلّم الأفقي بمثابة حذف لوظيفته، ومنذ تلك اللحظة وأنا أعيد على نفسي السؤال ذاته… فالسلالم كالأبواب، لأنها تصلح للدخول والخروج بالدرجة ذاتها، لكن لا بد من صاعد أو هابط أو داخل أو خارج كي يحدد لها وظيفتها.
وحين تكرر المشهد واستشهد في القرية الحدودية ذاتها رجل كان يحصي براعم الموسم المقبل على أشجاره، حدث انقلاب مفاجئ أربك كل ما تجمع لدي من خبرة طفولية، فحين همّ الرجال بحمله على السلم صاح أحدهم مستنكرا، وطلب منهم أن يحملوه على البنادق، فاصطفوا خمسة رجال على كل جانب وتحولت البنادق إلى بديل ذي دلالة للسّلم ودرجاته الخشبية.
* * *
لم أعد هناك بما يكفي لأن أرى بالعين المجردة ما يراه الباقون الذين تعوقهم جذورهم عن الرحيل، ولست هنا بما يكفي كي أصف نفسي بالمهاجر والمكان الذي أعيش فيه بالمنفى، إنها أحجية قديمة تلك الثنائية العصية على التفكيك وهي المنفى والملكوت، فالمنفى يشترط ذاكرة تستدعي الوطن، لأن من يولد فيه لا يعرف سواه، والوطن بالنسبة إليه خيال، والأجنحة مهما عظمت لا تغني عن الأقدام. مادام هناك جاذبية تستدرج الطائر مهما حلق عاليا.
إن مشهد رضيع يُذبح أو يُقتل ويودع العالم بعينين مفتوحتين لا يحرج البالغين فقط، بل يحول ما تبقى من أعمارهم إلى حمولة باهظة لإدراكهم بعد فوات الأوان أن الرصاص الذي اخطأهم أصاب أبناءهم!
* * *
قد تكون هذه التداعيات محاولة يائسة لتسديد المديونية، وما أضاف إليها التاريخ من الربا، وقد تكون بحثا عن توازن نفسي مفقود، فإن لا تكون هناك في لحظة ما، يعني أنك لست هنا أيضا أو في أي مكان لأن الفرار من مجابهة الحقيقة حين تولد في المنفى هو بمثابة الفرار من الجسد حيث المنفى هو القبر.
وسواء كانت القيامة آجلة أم عاجلة فإن من يموتون دفاعا عن الحياة موتهم مجرد وعكة، أما من يموتون جدا ويتعفنون حتى آخر خلية فهم الذين حفروا كطائر نقار الخشب أعشاشا للحدآت والغربان، أو كمن قضوا العمر في حفر جدار زنزانة كي يجدوا أنفسهم في زنزانة أخرى أشد رطوبة وأضيق!
______
*المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *