مها العتوم … بين الشّعر والتّنوير




*علي عبيدات


خاص ( ثقافات )

بعد تأملات ابنة جلعاد في وديان قرية “سوف” الخصبة والمحاطة بجبال جرش الباردة أقدمت الشاعرة الأردنية مها العتوم على اقتراف الفعل الشعري لتُسْقِطَ ما شاهدت على سيل لغتها الشعرية منتهجةً من برودة التضاريس ودفء التأمل ركناً شعرياً خاصاً أقادت بين ردهاته دوواين شعرية ثريّة، ” “دوائر الطين” و”نصفها ليلك” و”أشبه أحلامها” و”أسفل النهر””، قدمتها مها العتوم ملخصّة فيها بعضاً من رؤاها الشعرية قبل وبعد مسيرتها الأكاديمية التي بدأت بتخرجها في جامعة اليرموك الأردنية عام 1995 بعد حصولها على درجة البكالوريوس ثم الماجستير في الجامعة ذاتها وبعدها الدكتورة في الجامعة الأردنية، وواظبت على مشروعها الإبداعي تزامنًا مع مشوارها الأكاديمي دون هوادة.

بينما يُسْتَنْزَف الإنسان بمعيّة الظلام ووحوشه ومناهجه التي تخدش الآدمية منذ سنوات، هل سيقف الشعرُ على الحياد أم سيقول كلمته، وإلى أين تتجه القصيدة ونحن بين سندان الحريات ومطرقة الاستبداد في آن، ونعيش في زمن لم ندرك كيف أصبح على هذا النحو ولا ندري إلى أين وكيف يذهب بنا؟

لطالما كان الشعر مثله مثل أشكال الإبداع الأخرى- لطالما ناضل في هذه المنطقة بالذات، من أجل حريّة الإنسان وضد الاستبداد، الإبداع حريّة، ولا يكتب الشاعر إن لم يكن حرا، وإن لم يحمل حريته في شعره، لكن هذا الزمان العربي يعاني الإنسان فيه من صور الظلم والاستبداد، في الداخل وفي الخارج، ومن هنا تأتي صعوبة معركة المبدع العربي أو المبدعة العربية، لأن صور الصراع والظلم والاستبداد المتنوعة تجعله كأنه دون كيخوته الذي يصارع دون جدوى، ودون وجهة محددة، ودون هدف واضح، إننا نعيش مرحلة عربية صعبة فعلا، وليس سهلا النجاة، أو تحديد الهدف الذي يمكن أن تتجه إليه معركته الشعرية والإبداعيّة، لكن يبقى الشعر الحقيقي والشاعر الحقيقي الذي لا يعدم وسيلة لاستبصار الحاضر واستبطان الماضي، من أجل المضي إلى المستقبل، إن لم يكن بالنصر، فقد يذهب بأقل الخسائر، ويحمل قضاياه الخاصة والعامة، وينقلها إلى العالم.

يتفق الجميع على أننا نمر بأزمة ولاءات وانتماءات تنحسر وتتسع وفق المشارب الفكرية والميول الحزبية والعقائدية أحياناً، فحتى من يستهجنون الإرهاب والظلاميين لا يتفقون تحت راية واحدة، فهل نحارب هذا الظلام بالشتّات والفرقة التي تعيث خراباً بين الشعراء الذين وصفهم “غوته” بأنهم موظفون في المؤسسة البشرية ويساعدون إخوتهم في الإنسانية، فهل نعمل فرادى لنَنْعَمَ بالخير بين كل هذا الشر الجماعي؟
حين تتفتت القضية الواحدة والقائد الواحد والولاء الواحد يحدث ما يحدث الآن كنتيجة طبيعية، نحن نمر بمرحلة تحول كبرى في المنطقة العربية، لعلها الأصعب والأعنف في الوقت نفسه، انهيار الرموز يؤدي إلى تحلل كل شيء، وتفتته وتشرذمه، وعلى الرغم من صعوبة المرحلة وقسوتها، إلا أنها الممر الوحيد والممكن للنهوض، والرجوع إلى الذات الواحدة المتوحدة والمعافاة، لكن هذا لا يحصل في وقت قصير، ولا في مدة زمنية محددة، نحتاج إلى زمن طويل من أجل إعادة لملمة الذات، ورأب صدوعها المختلفة والعميقة في الوقت ذاته.



حول الميول والمشارب، كيف يمكن للشاعر أن يحافظ على نفسه ضمن معمعة الميول والمشارب السياسية التي لها أن تؤدي بصاحبها إلى الموت الجماهيري حيناً أو الشهرة المفرطة في ركن أصحاب الميول عينها في مواضع أخرى؟

الشاعر يعرف أرض الشعر التي يطأها، ويعرف من البداية إلى أين يريد أن يذهب بقصيدته، يستطيع الاختيار والذهاب إما إلى منطقة الحضور الجماهيري والتغاضي عن شروط القصيدة الجمالية والفنية، أو أن يذهب إلى الشعر وحده محققا للشعر وللنخبة طموحاتها الفنية والجمالية دون العناية بالجمهور والشهرة السريعة. برأيي شخصيا من المهم الجمع بينهما، مع أن هذا لا يحصل أغلب الأحيان إلا أن الشعر هو من أجل الناس من جهة، ومن أجل الشعر وشروطه التي لا يمكن التنازل عنها من جهة أخرى. يعني بإمكان الشاعر أن يبذل جهدا مضاعفا من أجل الفوز بالحسنيين معا، وهذا ليس سهلا كما يتراءى للبعض بل لعله الأصعب، ولكنه المطلوب حاليا في هذه المرحلة التاريخية حتى لا يفقد الشعر حضوره وتأثيره .

كيف سيرضى القارئ العربي عن الشعر ويرى التنوير فيه وهو الغارق في لغة الظلال والرمزية المنفرة التي يراها القارئ الباحث عن النور رطيناً لا يفقه منه شيئًا، أم أن الفهم مسألة لا علاقة لها بالشاعر الذي يقول ما في جعبته متناسيًا ما يريده القارئ؟

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الجمهور والناس عموما لم يعودوا يبذلون جهدا في سبيل الوصول إلى الشعر الحقيقي، يريدون شعرا سهلا كالوجبات السريعة، وكأغاني المرة الواحدة ، وهذه حالة ليست خاصة بالشعر وحده، فهي كذلك في الفنون كلها، ولكنها تبدو واضحة في الشعر، لأنه ينسج باللغة، والملفت أن الجمهور غير معني بلغته أساسا. الشعر الحديث ابن زمانه الحديث وابن أدواته الحديثة ولذلك هو يفارق الشعر القديم بأدواته وإجراءاته الفنية والجمالية، دون أن يناقضها أو ينفصل عن هذا الماضي، ولكنه أولا وأخيرا يكتب بلغته ويعبر عن قضاياه، ويستعين بأدواته الفنية والجمالية المختلفة عما كان في الماضي. ولكن في الوقت نفسه يمكن أن نلقي التهمة على بعض الشعراء الذين يتعمدون الإيغال في الرمزية، وتعمد الإبهام لا الغموض، وهذا دفع بالشعر إلى موقع الاتهام من قبل الجمهور أنه غير مفهوم وغير مقبول، وهم محقون في ذلك، إلا أني شخصيا أضع هذا في خانة الشعر غير الحقيقي، وصاحبه لا يكون شاعرا حقيقيا واعيا، لأن هذا التعمد لا يخدم الشعر الحديث ولا القديم، ولا يخدم صاحبه أيضا.

أين الشعر من التنوير؟ وهل تثق مها العتوم بالمشروع التنويري -الذي لم ينظم في قالب واحد حتى الآن- وينادي به كثر؟

ربما أجبت عن شيء من هذا السؤال فيما سبق، لكن لا بد من التأكيد على أننا في هذا العصر، وفي هذه المرحلة، لدينا انهيارات وصراعات، وتتناقص القضايا الجمعية التي توحد قلوب الناس وتؤلف بينهم في الأحلام والطموحات، ولذلك تبدو الفردية الأساس الجديد والبديل، هناك شعر جيد قليل وشعراء جيدون قليلون، وهؤلاء ليسوا من إنتاج الظرف الصحيح والصحي اليوم، ولكنهم من إنتاج أنفسهم، وبذل الجهد الكبير لمحاولة بناء العالم المفتت في دواخلهم وفي قصائدهم. وهذا ليس خاصا بالشعر وحده، بل هو عام في كافة مجالات الحياة.لا بد أن يبني الشاعر منظومته الخاصة الفكرية والسياسية والثقافية والإبداعية، وكأنه ينفصل عن العالم، ولكنه في الواقع يتصل به بشروطه وأدواته الخاصة واقعيا وجماليا.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *