*تقديم وترجمة: الحبيب الواعي
تلقى المجتمع الأمريكي وثوار العالم بحزن شديد نبأ وفاة الكاتبة والفيلسوفة والناشطة السياسية الثائرة غريس لي بوغس يوم الاثنين 5 أكتوبر/تشرين الأول في منزلها في مدينة ديترويت في ولاية ميتشيغن عن عمر يناهز مئة عام. وأعلن عن خبر وفاتها من قبل مركز جيمس وغريس لي بوغس لرعاية القيادة المجتمعية، الذي أسسته بعد وفاة زوجها عام 1993.
قالت أمينتاها أليس جينينغز وشي هويل في بيان لهما إن غريس «توفيت كما عاشت محاطة بالكتب والسياسة والناس والأفكار». وقد أصدر الرئيس الأمريكي باراك أوباما بيانا يعبر فيه عن مدى حزنه العميق عند سماعه بخبر وفاتها. يقول الرئيس أوباما في بيانه: «لقد أحزننا، ميشيل وأنا، خبر وفاة الكاتبة والفيلسوفة والناشطة السياسة غريس لي بوغس. لقد كرست غريس حياتها لخدمة حقوق الآخرين والدفاع عنها من خلال نشاطها داخل المجتمع المدني بديترويت ودورها القيادي في حركة الحقوق المدنية، مرورا بأفكارها التي مثلت تحديا لنا كي نصبو إلى حياة لها معنى».
كتبت في سيرتها الذاتية: لو أنني لم أولد أنثى ومن أصول أمريكية صينية لما تأكد لي منذ وقت مبكر أن تغييرات جذرية كانت ضرورية في مجتمعنا. لو أنني لم أولد أنثى ومن أصول أمريكية صينية لانتهي بي المطاف مدرسة للفلسفة في جامعة ما، ملاحظة بدلا من مشاركة نشيطة في الحركات الإنسانية التي عرفها النصف الأخير من القرن العشرين».
ولدت غريس يوم 27 يونيو/حزيران 1915 في مدينة بروفيدانس في ولاية رود آيلاند لأب وأم من أصول صينية. كان والدها يمتلك مطاعم في مدينة نيويورك وكانت أمها تعمل عارضة أزياء. تنتمي والدتها لأسرة صينية معوزة، حيث دفع الأمر بعمها لبيع والدتها لتجار العبيد، إلا أنها تمكنت من الهرب. تزوجت والدتها يين لان لي بوالدها تشين لي وفق زواج رتبه عمها، إلا أن عدم قدرتها على أن تلد أبناء ذكورا دفع بأبيها إلى التخلي عنها.
هاجر والدها إلى الولايات المتحدة مع زوجته الثانية بعد أن هزم البريطانيون الصين في حرب الأفيون الأولى ما بين 1839-1842. بعد الحرب، عانت البلاد من مشاكل اجتماعية واقتصادية بسبب تعويضات اضطرت الحكومة الصينية إلى دفعها للبريطانيين. ولمواجهة هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فرضت الحكومة الصينية ضريبة على المزارعين الفقراء الذين لم يكونوا قادرين على دفعها، ما نتج عنه هجرة العديد من الصينيين إلى أمريكا.
درست بوغس في كلية بارنارد على منحة دراسية وتخرجت فيها عام 1935 تم التحقت بكلية برين ماور، وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة عام 1940 وتأثرت بكل من كانط وهيغل على الخصوص. وأمام العراقيل التي واجهتها في عالم الأكاديمية خلال الأربعينيات التحقت بوغس بمكتبة الفلسفة في جامعة شيكاغو مقابل أجر زهيد. أصبحت بوغس عضوا في حزب العمال اليساري نظرا لدفاعهم عن حقوق المكترين، وقد عرف الحزب بموقفه اتجاه الاتحاد السوفييتي باعتباره تجمعا بيروقراطيا. وهكذا بدأت بوغس مسيرة حياتها، مناضلة ثائرة تدافع عن حقوق الزنوج في أمريكا.
التقت بوغس بالمفكر الاشتراكي سريل ليونيل روبرت جيمس إبان مهرجان خطابي في شيكاغو لتنتقل معه إلى نيويورك حيث ستساعده على وضع اللبنات الأساسية لحزب العمال الاشتراكي، ومن خلاله ستلتقي بزعماء الحركات التحررية في دول العالم الثالث أمثال الرئيس غانا كوامي نكروما، وبالتدريج تفتقت عبقريتها عن أعمال فكرية ساهمت في فتح نقاش مهم، حيث ترجمت إلى اللغة الإنكليزية مقالات عدة من المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لكارل ماركس للمرة الأولى، وسرعان ما انضمت إلى تيار جونسون فوريست بقيادة جيمس، رايا دونييفسكايا ولي، الذي كان يركز بالأساس على الفئات المهمشة مثل النساء والزنوج والشباب في قطيعة مع مفهوم حزب الطليعة.
اشتغل تيار جونسون فوريست في بدايته داخل مشروع حزب العمال، ثم عمل تحت مظلة حزب العمال الاشتراكي لفترة وجيزة قبل أن يقطع مع التروتسكية كليا، وكان يعتبر الاتحاد السوفييتي دولة رأسمالية. في سنة 1953 تزوجت بوغس عامل السيارات الزنجي والناشط السياسي جيمس بوغز، الذي ستسانده في بناء مشروعه السياسي لعقود من الزمن قبل أن ينتقلا معا إلى مدينة ديترويت في العام نفسه، المدينة التي ستكون محور نشاطها الثقافي والسياسي لبقية حياتها.
عندما انقسمت مجموعة جيمس ورايا في منتصف الخمسينيات إلى لجنة نشر المراسلات بقيادة جيمس ولجنة الأخبار والآداب بقيادة دونييفسكايا، ساند كل من بوغس وجيمس لجنة نشر المراسلات التي كان جيمس يسهر عليها أثناء وجوده في المنفى في بريطانيا. في عام 1962 انفصلت بوغس عن جيمس وواصلت لجنة نشر المراسلات جنبا إلى جنب مع ليمان باين وفريدي باين، في حين أن أنصار جيمس، مثل مارتن غلابرمن، استمروا في شكل منظمة جديدة لم تعمر طويلا أطلق عليها «مواجهة الواقع». خلال الستينيات انضم كل من جيمس وبوغس إلى حركة القوة السوداء وعرفوا بمساندتهم لمالكوم اكس، الذي اعتاد على المبيت في بيتهما عند زيارته لديترويت والذي لم تنجح في إقناعه بالترشح لمجلس الشيوخ عام 1964.
وتميزت هذه الفترة من عملهما السياسي بشدة المراقبة التي مارسها مكتب التحري الفيدرالي على أنشطتهما. وقد دفعت ظروف العيش المزرية في ديترويت التي يتكون معظم سكانها من السود بالتركيز على الدفاع على حقوق النساء والشباب، باعتبارهم طلائع حركة اجتماعية مستقبلية. وتميزت هذه المرحلة من حياة بوغس كذلك بانتقالها من إستراتيجية تعتمد المواجهة كما نظر لها مالكوم اكس إلى تكتيك يعتمد اللاعنف، كما نظر له مارتن لوثر كينغ. ولتعزيز رؤية الدكتور كينغ أطلقت سلسلة من المشاريع الاجتماعية التي تعمل على بناء «مجتمعات محبوبة» تناضل من أجل العدالة العرقية والاقتصادية من خلال أساليب سلمية، كما أسست تعاونيات غذائية ومراكز محلية لدعم المسنين وتنظيم العمال العاطلين عن العمل لمكافحة الجريمة.
في عام 1992 شاركت بوغس في تأسيس «صيف ديترويت» وهو برنامج للشباب من خلفيات ثقافية متعددة، يجذب المتطوعين من جميع أنحاء البلاد ويساهم من خلال العمل التطوعي في إصلاح المنازل ورسم جداريات وطلاء المنازل، وتنظيم المهرجانات الموسيقية وتحويل المساحات الفارغة إلى حدائق عامة، بالإضافة إلى منزل بوغس في ديترويت الذي تأسس سنة 1990 وهو بمثابة مقر لمركز بوغس لرعاية القيادة المجتمعية محليا ووطنيا. وفي عام 2013 فتحت مدرسة جيمس وغريس لي بوغز الابتدائية.
تميزت الحياة الفكرية لبوغس بغزارتها، حيث استدعيت إلى مؤتمرات وملتقيات فكرية عدة في كل من جامعة كاليفورنيا في لوس إنجليس وجامعة كاليفورنيا في بيركلي. في عام 2012 شاركت بوغس في مناظرة علنية مع الناشطة السياسة المرموقة أنغيلا ديفيس في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، حيث ناقشتا معنى الثورة.
وعن مفهومها للثورة تقول بوغس «علينا أن نتخيل معنى جديدا للثورة وأن نفكر ليس فقط في التغيير على مستوى مؤسساتنا ولكن في تغيير أنفسنا […..] لقد بلغنا مرحلة يركض فيها مسؤولو الحكومة والصناعة مثل دجاج مقطوع الرأس، ويلزمنا أن نعيد التفكير في البدائل وليس فقط الاحتجاج ضدهم وأن نتوقع منهم أن يقوموا بما هو أفضل». من الصعب أن يكرس الشخص حياته كلها للنضال وعندما سئلت بوغس عن سر نجاحها في هذه المهمة الصعبة أجابت:» كثيرا ما يسألني البعض عن ما يدفعني إلى الاستمرار في نهجي بعد كل هذه السنوات. أعتقد أنه الإدراك أنه ليس هناك صراع نهائي. سواء فزت أو خسرت فكل نضال يولد تناقضات جديدة، أسئلة جديدة وأكثر تحديا».
لم تترك بوغس أبناء يرثونها ولكنها خلفت أثارا علمية سيشهد لها بها على مر العصور ونذكر منها: جورج هربرت ميد: فيلسوف الفرد الاجتماعي (1945)، مواجهة مع الواقع (1958)، الثورة والتطور في القرن العشرين (1974)، المرأة والحركة لبناء أمريكا جديدة (1977)، أحاديث في ولاية ماين: استكشاف مستقبل أمتنا (1978)، العيش من أجل التغيير: سيرة ذاتية (1998)، الثورة الأمريكية الموالية: النشاط المستدام للقرن الحادي والعشرين (2011).
——-
القدس العربي
شاهد أيضاً
ليتني بعض ما يتمنى المدى
(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …