«حقيبة» شذا شرف الدين لا تغادر



*كاتيا الطويل


تكتب شذا شرف الدين في «حقيبة بالكاد تُرى» (دار الساقي، 2015) ما يشبه يوميّات وقصصاً برلينيّة، يوميّات إن أمكن إسباغ لون عليها فهو الرماديّ، اللون الرماديّ الوسطيّ القابع في اللامكان واللاهويّة. فالشخصيّات رماديّة والأيّام رماديّة والمدن رماديّة والماضي والمستقبل والحاضر. كلّ شيء على حيرة هنا، هامشيّ، لا هو أبيض ولا هو أسود ولا هو بين بين. كلّ شيء ينتمي إلى تلك الفسحة الرماديّة الضبابيّة الممحوّة اللون. حتّى العنوان رماديّ، فـ «حقيبة بالكاد تُرى» هي حقيبة لا أرض لها ولا وجهة، فلا هي هنا لتُرى تمامًا ولا هي هناك كي لا تُرى بتاتًا إنّما هي هنا وليست هنا، تُرى ولا ترى، أو بالأحرى بالكاد تُرى، حالة وسطيّة انتقاليّة لا يمكن أن تتغيّر ولا تطمح إلى أن تتغيّر ولا أمل لها بالتغيّر.

كتابة خفيفة الظلّ
تندرج مجموعة شذا شرف الدين في أربعة أقسام كبرى. يحتوي الأوّل منها على سبع قصص هي في المبدأ قصص حقيقيّة مستمدّة من حياة الكاتبة وتجربتها البرلينيّة. والقسم الثاني مؤلّف من ثلاث قصص تبدو من نسج خيال الكاتبة أو أقلّه مستوحاة من الواقع من دون أن تتقيّد بحذافيره. أمّا القسم الثالث وما قبل الأخير فهو مؤلّف من قصّتين طريفتين هما من القصص المتخيّلة وهما من الغرابة والظرف والرمزيّة بمكان. أمّا القسم الرابع والأخير فهو وقفٌ على قصّة واحدة عنوانها «كلّ هذا البياض»، وكأنّ الكاتبة اختارت إنهاء مجموعتها باللون الأبيض، وأبيض الثلج هو اللون الوحيد الباهر في القصص كلّها، اللون المشترك في مشاهد برلينيّة ثلجيّة باردة، تتّسم بالرماديّة والفراغ والبرودة والوحدة واللاهويّة. كأنّ أبيض الثلج يسم حياة الكاتبة وشخوصها، يسم أطباعهم وخياراتهم وقناعاتهم، أبيض الفراغ واللا رغبة واللا انفعال. ويبقى قسم أخير من هذه المجموعة، لا ينتمي إليها ولا يشكّل قصّة من قصصها بل هو سيناريو تلفزيونيّ للكاتبة مترجم عن الألمانيّة، وهو سيناريو غريب وممتع على رغم قصره وإيجازه.
وتنقل شـرف الدين بأسلوب فكاهيّ متوهّج حياة برلينـــيّة باردة. وممّا لا مفرّ من ملاحظته هو أسلوب الكاتبة الرائع، أسلوب في الكتابة أقلّ ما يقال عنه إنّه سلس جذّاب أنيق متمكّن من النصّ ومن المعاني والشخصيّات. فقصص شرف الدين من القصص القليلة في أيّامنا هذه التي يستمتع القارئ بقراءتها، بل بالتهامها. لغة عربيّة متفــــردة لا هي صعبة لا تُفهم، ولا هي سطحيّة مثيرة للملل. معانٍ تعكس الحياة البشريّة بأعمق مكامن الفراغ والتجوّف التي فيها. حسّ فكاهة عالٍ، يظهر عند زوايا السطور في الأماكن الأكثر عتمة. فالكاتبة تُضحك القارئ عندما لا يتوقّع وتُخرجه من جدّيّة النصّ بكلمات تدّعي الجدّيّة ولكنّها ممعنة في الطرافة، ومثال على ذلك قولها: «وكان بياض الثلج يجعلني أصفن في الهواء، فأصير أطرح أسئلة من دون أن تكون لي نيّة البحث عن إجابة عنها. فأتساءل مثلاً إن كان للثلج تأثير فـــي طباع البشر، لأنّني لاحظتُ أن السويسريّين يشبهون بلدهم الثلجيّ في هدوئهم فضلاً عن برودتهم أو «برادتهم» كما نقول عندنا». (ص 117) وتقول في مكان آخر: « قرّرت العودة إلى البلد الذي أتيت منه لا حبًّا به، بل اعتيادًا على أخذ القرارات الخاطئة». ( ص 54)
وخفّة ظلّ الكاتبة وسرعة بديهيّتها في تلقّف مجريات أحداث قصصها تظهر بوضوح في كلماتها وفي طريقة وصفها الحياة والناس، من دون أن تسلب لغتها الظريفة ذرّة انفعال أو جدّية أو توهّج من معاني نصّها. فالكاتبة تجيد خلق الانفعال والتعلّق العاطفيّ عند قارئها حتّى لتصف الأمور بطبيعيّة وترافق تطوّر الأحداث بموضوعيّة «باردة» تشبه برودة ثلج برلين.
شخصيّات ومعاناة
إنسان شرف الدين إنسان يعاني مشاكل الوجود والهويّة والانتماء. فالشخصيّات ناقصة، هويّاتها غير مكتملة، تصرّفاتها باردة لا تنمّ عن طموح أو حلم أو رغبة. الشخصيّات باردة لامبالية لامبالاة اللون الرماديّ الذي لا يحدّد نفسه ولا خياراته. جيل معاصر هادئ، لا يعارض، لا ينفعل، لا تحتدم أموره ولا تتأزّم. شخصيّات اعتباطيّة، صداقات ركيكة، وجوه تأتي وتذهب من دون دافع، من دون محرّك، من دون شعلة أمل أو وهج طموح. حقيبة شذا شرف الدين ليست فقط حقيبة شبه لا مرئيّة، هي أيضًا حقيبة شبه فارغة كأصحابها، بعلاقاتهم السطحيّة وحيواتهم الهامشيّة. شخصيات ذات ميول خاصّة. فنّانون منهمكون في حال من السأم لا يتركهم وشأنهم. جيل شابّ يعيش على هواه، لا يسرع ولا يستعجل ولا يهمّ الخطى ليصل، فلا مكان يريد بلوغه أصلاً. والعلاقات الإنسانيّة في هذه القصص هي الأخرى أثلجها الطقس. وليست الصداقات وحدها هي الركيكة أو الهامشيّة، حتّى الروابط العائليّة تكاد تكون معدومة. فالمرأة تتكلّم وزوجها لا ينصت، الرجل يطلب الإذن بهدوء ليذهب وينام في بيت عشيقته السابقة. شبكة علاقات اجتماعيّة مفكّكة، وكأنّ الثلج انتقل من الخارج، من المشهد البرلينيّ إلى دواخل الناس، إلى وجدانهم إلى طرق تعاطيهم واحدهم مع الآخر. وهذا الانحلال الاجتماعيّ ليس نتيجة مشاعر سلبيّة أو مادّيّة أو أنانيّة أو جشع، هذه البرودة في المشاعر إنّما هي ناتجة من التجوّف، من غياب المشاعر والانفعالات والأحاسيس. فالأحاديث لا تطول والأخبار لا تكتمل والنقاشات لا تحتدم. ما من أحد متعلّق بوجهة نظره بما فيه الكفاية ليخوض نقاشًا يدافع فيه عنها. لا أحد يعتنق قضيّة أو فكرة أو إيديولوجيا ليدافع عنها، ليشرحها، ليتحمّس لها، ليصبّ طاقته في إقناع الآخرين بصحّتها.
«حقيبة» شرف الدين هي حقيبة شبه فارغة. فلا الغيرة غيرة، ولا الحزن حزن، ولا الألم ألم، ولا حتّى الموت موت، فكأنّه يتحوّل إلى مجرّد غياب، وكأنّ الميت ممثّل نزل عن خشبة المسرح ليشرب ولن يلبث أن يعود.

وكلّ شيء محض مصادفة. الأمور تحصل لأنّ الأقدار شاءت لها أن تحصل، اللقاءات تتمّ بطريقة اعتباطيّة يوميّة. وكأنّ الناس ضيوف على أصدقائهم وأقربائهم وعلى أنفسهم حتّى، فلا هم يقرّرون، ولا هم يرحلون، ولا هم يغيّرون أماكنهم حتّى. وكأنّهم جزء من المشهد، جزء من الرصيف الذي يستلقون عليه.
ولمـــن يتـــوقّع أن تكون الشخصيّات في حالة انتظار فهو مخطئ. فالشخصيّات لا تنتظر شيئًا ولا أحدًا. شخصيّات شرف الدين هي مجرّد شخصيّات واقفة في المحطّة الأخيرة: برلين، لا شيء قبلها، لا شيء بعدها، ولا شيء أثناءها.
—–
المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *