*إبراهيم صموئيل
لماذا ينظر العديد من الكتاب والفنانين العرب إلى شخصية “دون كيخوته” للكاتب المعروف ميغيل دي ثربانتس (1547-1616) باعتبارها الأقرب إليهم، والأدق في التعبير عنهم، والرمز الذي يمثل أحوالهم وهمومهم ومسار نتاجهم، حتى لتبدو تلك الشخصية وكأنها “تحك” على أرواحهم، وتعكس ما في دواخلهم؟
قبل نحو عشر سنوات، وفي ذكرى مرور أربعة قرون على صدور الطبعة الأولى لرواية “دون كيخوتة” عام 1605 شارك المثقفون العرب مثقفي العالم احتفاءهم بظهور هذا العمل الإبداعي الذي استطاع جمع آراء مائة من نخبة كتاب العالم حول أهميته وتصدره لائحة أعظم الأعمال الأدبية الخالدة.
وإذا كانت هذه الشخصية الروائية قد اجتذبت إليها كتاب ومثقفي أوروبا وعموم الغرب بسبب من دلالاتها الفلسفية والفكرية فضلا عن المفارقات في مغامراتها، فإن إغراءها لكتابنا ومثقفينا يتأتى من جوانب أخرى في الشخصية لعلها تكمن في النبل الرفيع لمقاصدها، والعزم الصارم في سعيها لتحرير العالم من شروره ومظالمه، والإرادة الماضية قدما لإعادة العدل والجمال المفقودين إلى الإنسان والعالم الذي يعيش في كنفه.
ليس هذا فحسب ما يدفع المثقف العربي كي يتماهى بشخصية “دون كيخوتة”، وإنما أيضا وجهها الآخر المتمثل بالإحباطات التي تنتاب الشخصية بعد كل “خرجة” من خرجاتها، وبالأحزان التي تتقطر فيها يوما بعد يوم، ثم بتراكم الشعور بالخيبة واللا جدوى في أعماقها أواخر حياتها، حين ينال منها الإنهاك والمرض واستمرار الحال المأمول تغيره على حاله!
وبنظرة عامة، وبالدخول خطوات أبعد سنجد أن المثقفين العرب -ومنذ عصر النهضة إلى اليوم- إذ جدوا واجتهدوا وأبدعوا سعيا لتغيير الواقع، أو المساهمة في تغييره فإنما كان حالهم وأثر نتاجهم كحال وأثر من “ينفخ في قربة مقطوعة” على حد تعبير المثل, أو كحال “سيزيف” حين كان يدفع بالصخرة عاليا فتهبط, فيعاود رفعها لتعاود السقوط من جديد!
عبثا حاول العلماء والمفكرون العرب السابقون، وكذا المثقفون من أدباء وفنانين في عصرنا الحالي تحقيق النهوض، أو الحث على النهوض، أو فتح الآفاق، أو تعميم الوعي الثقافي، أو وقف التدهور الجاري في عالمنا العربي منذ زمن بعيد إلى اليوم، إذ راح الواقع يتردى محاولة بعد محاولة، وكتابا بعد كتاب، ومشروعا فكريا بعد مشروع، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه!
من هنا تنعقد أواصر العلاقة، وتتجلى وجوه التشابه بين شخصية “دون كيخوته” بطموحاتها الكبرى ومحاولاتها الصادقة وخيباتها المروعة من جهة، وبين العلماء والمثقفين العرب في بلداننا من جهة أخرى.
ومن هنا لنا أن نفهم بدقة الدلالة التي حملها عنوان دراسة كتبها ممدوح عدوان، وصدرت في كتاب “نحن دون كيشوت”، وكذلك تأكيد غادة السمان في شهادة لها على أنه “ليس بيننا من لم يقاتل طاحونة هواء واحدة لعله اخترعها بنفسه، ولعلها تقطن أعماقه، ولعله بحاجة إلى مقاتلتها ليظل مثاليا ونبيلا وهزليا وإنسانيا!”.
وعندي، أن الوثاق الأساس الذي ضم المثقفين العرب إلى شخصية “دون كيخوتة” هو السعي الدؤوب الذي لا يكل ولا يمل لدى كلا الطرفين لتقلد وشاح: شرف المحاولة. هذا الوشاح الذي يفسر الغاية من رسم الشخصية، والمبرر الأكبر للجهود المبذولة من المثقفين.
فما كان لفارسنا الحزين -رغم إخفاقات محاولاته- أن يكف عن القيام بها، وكذا ثابر المثقف العربي عبر أدواته التعبيرية والفكرية والعلمية على فتح الأبواب المغلقة، وشق المعابر والمسالك للتوصل إلى عالم أفضل.
لقد دفع العديد منهم أثمانا باهظة من لقمة عيشهم، أو حريتهم، أو وجودهم في بلدانهم كفاروق الباز أحد كبار العلماء في العالم الذي تولى العديد من المناصب والمختبرات والهيئات البحثية والتدريبية المتعلقة بشؤون الفضاء، وأصدر ما يزيد على 12 كتابا علميا، ونال 31 جائزة دولية، أبرزها جائزة نوبل للفيزياء.
وجد الباز نفسه في بلده مصر أسير البيروقراطيات والتخلف والجهل، كما الحال في عالمنا العربي “من رأس هرم هذا العالم إلى قاعدته، مرورا بمدارسه ومعاهده وجامعاته ووزاراته” على حد تعبيره، حتى أن “الباز” اضطر إلى الهجرة “هجرة فرضت عليّ فرضا، ولم أكن أفكر يوما بهذا”، كما يقول في حوار متلفز معه.
وعلى غرار فاروق الباز، ستطول لائحة العلماء والمبدعين والمفكرين والكتاب والفنانين العرب من كل حقل وميدان، وفي غير بلد عربي، وستتوافر لدينا ملفات من سير حيواتهم واعترافاتهم وما عانوا منه وتعرضوا له غير أنهم ثابروا على العطاء مرتضين بنيل ذلك الشرف.
وفي الرواية، حين كان ينهز دون كيخوته لخوض معاركه، لم يكن يضع في حسبانه موازين الربح والخسارة، ولا كان يلتفت إلى عدد المنضمين له أو الغافلين عنه، لأنه من أجل حلمه كان، ومن النهوض -لا من التحقق- استمد قلبه القدرة والعزم على المحاولة تلو المحاولة.
الأمر عينه في الحياة الواقعية لدى العلماء والمفكرين والمبدعين الذين إذ راحوا يقدمون ثمار عقولهم ومواهبهم فإنما كانوا “مدفوعين” من نبل دواخلهم، وليس جراء حساباتهم لموازين الربح والخسارة، الأمر الذي جعل الإبداع يحيا ويستمر منذ عشرات القرون إلى يومنا الراهن.
ألا يشبه ذلك درب الجلجلة الذي يضم إليه مشائين كثيرين يحملون معارفهم وعلومهم وثقافاتهم على أكتافهم كالصلبان، ويمضون في الطريق، لا لتأدية واجب ثقيل ملقى على عواتقهم، ولا لإنجاز مهمات أوكلت لهم من جهات ما، وإنما لراحة نفوسهم المترعة بالإبداع، وخلاصها.
______________
*كاتب وقاص سوري/ الجزيرة