الرواية وعصرُنا(2)




*لطفية الدليمي




(2)
يُعدّ الخيال المجال الحيويّ الخصب الذي تعمل داخله – وفي إطاره – العناصر الروائيّة على تشكيل العمل الروائيّ بغض النظر عن تجنيس الرواية ، وبهذا ينظَرُ إلى الرواية باعتبارها وسيلة ترتقي بالخيال البشريّ وتمنع انزلاقه في مهاوي الركود بخاصّة بعد طغيان الإنجازات العلميّة والتقنيّة التي تعمل على تنميط الحياة وتحويلها إلى حزمة خوارزميّات Algorithms محدّدة على نحوٍ صارم ، ويغدو الأمر أكثر خطورة مع عصر التقنيّات الرقميّة التي تأسّست أصلاً على مفهوم النظم المحدّدة Discrete Systems المحكومة بخوارزميات فائقة التحديد والصّرامة بحيث بات الأمر يهدّد النزعة التحليليّة التي تعدّ ميزة فريدة للعقل البشريّ . يمكن الإشارة أيضاً إلى خفوت المؤثرات الحسيّة وتبلّد الخيال البشريّ و إنكفاء شعلة الشغف والإحساس بالمغامرة ( الذهنيّة و الواقعيّة ) ، و هنا صارت الرواية تخدم كنوعٍ من ترياقٍ مضاد لهذا الخنوع و الانكفاء الذي أصاب الخيال البشريّ وعطّل توهّج الحواس و اندفاعتها البدائيّة الباعثة على أعلى أشكال اللذّة الذهنية المشتهاة . 
هناك جانب براغماتي مرتبط بالفن الرّوائيّ الذي يمكن أن يوفّر في حالاتٍ خاصّة علاجاً وافياً لبعض الاضطرابات الذهانيّة وبخاصّة لتلك الحالة الإكلينيكيّة المسمّاة ( الذهان الهوسي – الإكتئابيّ Manic – Depressive Psychosis ) التي تعرَف بين العامّة بِـ ( الاكتئاب ثنائيّ القطب Bipolar Disorder ) : تلك الحالة الشائعة التي تدمر حياة الأشخاص وبخاصّة اؤلئك الذين يتوفّرون على قدر عالٍ من الذّكاء والألمعيّة والذين تتسبّب هذه الحالة في تعويق قدراتهم بطريقة بالغة الخطورة . هناك حالات موثّقة حكى فيها بعض كتّاب الرواية العالميين عن تجاربهم الخاصّة وكيف ساهم انغماسهم في العمل الروائيّ على تخطّي الأطوار الصعبة من اضطراباتهم الذّهانيّة المدمّرة وبشكلٍ عجز عن إنجازه عقار ( بروزاك Prozac ) الذي بات الخصيصة التي تسِمُ ثقافتنا المعاصرة التي صارت تدعى معه ( ثقافة البروزاك The Prozac Culture ) . ذهب بعض الأطبّاء السايكولوجيّين إلى إمكانيّة اعتماد الكتابة الروائيّة كوصفةٍ علاجيّة – في حالات محدّدة بعينها – ، و ربّما يكمن السبب وراء قدرة الكتابة الروائيّة على اجتراح علاج لبعض الاضطرابات الذهانيّة في الطقوس المألوفة المرتبطة بتلك الفعاليّة الابداعية المتسمة بالإنضباط والصرامة التي يتطلبها العمل الروائيّ ، وقد يعمل هذا الأمر على كبح التشويش الخارجيّ و الضوضاء البشعة الناتجة عنه ، ويدفع الأفراد نحو التركيز المجرد على سماع أصواتهم الداخليّة الثريّة المدفونة تحت ركام الإهمال و التجاهل ، الأمر الذي قد يتسبّب في تنشيط النواقل العصبيّة الدماغيّة ( مثل السيروتونين والدوبامين ) التي تتحكّم في الكيمياء الدماغيّة التي تكيف المزاج البشريّ وتقلّباته وتدفع به نحو آفاق النشوة و الإحساس المفعم بالسعادة التي لاترتبط بمؤثّرات فيزيائيّة خارجيّة، وقد تتماهى تجربة الكتابة الرّوائيّة في هذا الإطار مع الكشوف العرفانيّة والفيوض التصوّفية المرتبطة بها تلك التي حكى عنها عرفانيّونا الكبار والمعتزلة الأجلّاء ، وربّما يدعم هذا الرأي كون أغلب الكُتّاب – وبخاصّة الروائيّات والروائيّين – المُجيدين و المميّزين ذوي التجارب المفارقة للوعي البشريّ العاديّ والقادرة على استجلاب البصيرة بطرقٍ استثنائية غير مألوفة ، و يمكننا ذكر بعض الأسماء الروائيّة المبرزة في هذا الميدان : فيرجينيا وولف ، هيرمان هسّه ، دوريس ليسنغ و نيكوس كازانتزاكيس.
_________
*المصدر: المدى

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *