جراح مسكوت عنها



*بسمة النسور


من يلجأ إلى استخدام العنف اللفظي، أو الجسدي، في تعامله مع الآخرين، نموذج ضعيف الشخصية. يعاني، بالضرورة، من خلل سلوكي خطير، يجعله عاجزاً عن التعبير عن وجهة نظره، ما لم يستعن بقبضة يده وسيلةً وحيدة للفت النظر ونيل الاعتراف. إنه يستحق الرثاء والمساعدة الطبية والنفسية والسلوكية في جميع الأحوال. 

ويؤكد مختصون نفسيون تعرّض مثل هذا النموذج إلى خطاب تربوي غير سوي في طفولته، إلى خطاب، بل أسلوبٍ، شديد القسوة، قائم على الضرب والتعنيف، وخالٍ من مفردات الحب والحنان، ما يفاقم لديه حالة حرمان عاطفي، وتنامي شعور بالكراهية والعداء، والرغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، سلوكاً تعويضياً ليس إلا. 

ولا تخطر ببال هذا النموذج العصابي فكرة الرضوخ للعلاج النفسي اللازم لغايات تعلم آليات ضبط النفس وطرائق التحكم بانفعالات الغضب، ذلك أنه لا يقرّ، أصلاً، بأنه مريض بحاجة عاجلة إلى علاج حثيث، وإلى إعادة تأهيل، لكي يصبح قابلاً للتعاطي الإنساني مع الآخرين، من دون الوصول إلى مرحلة عراكٍ، ينجم عنه، في العادة، أذى كثير. بل يذهب، وهو فاقد الأهلية الإنسانية، وغير ناضج على المستويين، النفسي والعاطفي، إلى قرار الزواج وتكوين أسرة. وسوف يفشل، حكماً، في تحمل تبعات قرار مصيريٍّ كهذا، ما يجعل الزوجة المنكوبة والأطفال عاثري الحظ مجرد ضحايا عزّل في مرمى الحقد والكراهية والسلوك المضطرب، ويوسّع دائرة المعاناة، ويضخم المأساة إلى حدودها القصوى. 

ولا يبدو مستغرباً، والحالة هذه، أن يغدو العنف الأسري من الظواهر السلبية التي تميز مجتمعاتنا بشرائحها كافة، وذلك ليس حصراً على فئة ذوي الدخل المحدود، كما قد يتوهم بعضهم، فثمة عنفٌ يمارسه أزواج حاصلون على شهادات أكاديمية عليا، ويحتلون مواقع اجتماعية بارزة، ولا ينقصهم الثراء أو الوجاهة. 
في المقابل، هناك ضحايا صامتات على العنف يرتدين الحلي الفاخرة، وأحدث صرعات الموضة، وينجحن بحكم الخبرة (!) في إخفاء آثار الصفعات والركلات، ويغلقن أبواب بيوتهن على الأسرار الحزينة، بأمل تحقق انفراجٍ ما. وتورد سجلات رسمية إحصائيات صادمة عن عدد ضحايا العنف الأسري من الأطفال والنساء، غير أن الواقع أشد مرارةً عمّا تفصح عنه السجلات، وتكمن الخطورة، هنا، في الموقف العاجز السلبي المستسلم الذي تتخذه فئة كبيرة من النساء المعنّفات، خشية التعرّض لعواقب غضب الزوج، حيث التمادي في مزيد من الظلم والقسوة. 
تعض المرأة المهانة المستباحة على جراحها المسكوت عنها، وتُحجم عن اتخاذ أي إجراء قانوني يحدّ من السلوك العدواني للرجل، المستمد نفوذه من تخاذل المرأة واستلابها، وقبولها مقولة القسمة والنصيب، عاجزة عن الاحتجاج أو الشكوى، فيدفع الأطفال ثمناً باهظاً لسكوت والدتهم، ويفقدون، بالتالي، ثقتهم بقدرتها على توفير الأمن والأمان لهم، أسوة بباقي الأمهات. 

علينا الاعتراف بتفشّي هذه الظاهرة المؤسفة في بلادنا، وهي لا تقتصر، للأسف، على الأفلام والمسلسلات الرمضانية بمقتضيات الدراما والتشويق. من هنا، على الضحايا إبداء مقدار أكبر من الشجاعة والتبليغ فوراً عن المعتدي، بغض النظر عن درجة القرابة، للوقوف على العوامل المؤثرة في تنامي هذه الظاهرة، من جهل وفقر وإحباط وبطالة. ولا بد كذلك من تحليل تلك النظرة المتخلفة السائدة للمرأة في بعض المجتمعات التي تعتبرها كائناً من مرتبةٍ دنيا، تساق كأي دابة، لا بأس من تأديبها بين حين وآخر، نظرة قبيحة تكرّسها ثقافة شعبية موروثة، ليست مشرقة دائماً، تصب بعض مفرداتها في تعزيز النظرة الدونية للمرأة. 
ومن البديهي، والحال هذه، أن تصل نساءٌ إلى مرحلة خطيرة من الخضوع المازوشي لمعذبها، إلى درجة التواطؤ ضد نفسها، واستمراء المذلة والإهانة، لتصبح تلك الصيغة التعريف الوحيد لهذا النمط من العلاقات الشاذة المركبة بين الضحية وجلادها، بحيث تستنكف عن التقدم بالشكوى انتصاراً لحقهن في حياة أقل إساءة وتجريحاً. وتتردد كثيراً قبل أن تفكر في التمرد على هذا الوضع غير الإنساني المدمر الذي يستنزف الطاقة ويبتذل الروح، ويطرح سؤال الكرامة والحق البديهي في صونها، واحداً من أهم حقوق الإنسان. 
_________
* المصدر: العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *