*محمد مزيد
هذه الرواية تضعنا أمام سؤال مهم وخطير، هو كيف نعرف الله؟ وتتفرع منه أسئلة أخرى، هل البحث عن الذات الإنسانية بحث عن الله؟ أين يمكن أن نجد أنفسنا، هل في الديانة والتمسك بالعقائد والتماهي بالرسائل الغيبية التي أنزلها الله على بني البشر عبر الأنبياء المرسلين، أم من خلال البحث في الماهيات والأخلاقيات والفلسفات الوجودية التي لم تصل إلى الأجوبة الحقيقية المقنعة إلى يومنا هذا؟
تجدر الإشارة إلى أن البحث عن حقيقة وجود الله عزّ وجلّ، كان الهدف الأعمق لدى الإنسان منذ إطلالته الأولى على الحياة، ويتناسب ذلك مع واقع خلقه على فطرة الله تعالى «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله». فالتساؤل عن الله والبحث عن مقاصده أمر تكويني، ينبع من تلك الأعماق من دون قصد أو إرادة.
رواية «جحيم الراهب» التي صدرت عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر للروائي والصحافي العراقي شاكر نوري، تأخذنا في سياحة ذهنية إلى قلب هذه الاسئلة، عبر نص إشكالي، استفزازي، صادم، تتداخل فيه خطوط السرد بلعبة فنية صارمة حينا ومتراخية حينا آخر، وبأسلوب يغلب عليه الاسترجاع أو ما يسمى الفلاش باك، عبر إيقاعات متنوعة، تثير لدى المتلقي نوعا من الحيرة والإرباك والغموض، التي هي حيرة وغموض الأسئلة التي تقدمنا بها نفسها.
في تلخيص بسيط أقول إنها رواية تبحث عن الآباء الآشوريين الذين هربوا من بلاد وادي الرافدين وأسسوا دير الإيقونات في بيروت للحفاظ على هويتهم الشرقية، وأن الأب جوزيف الراعي الشيوعي هرب من قريته «مركا» في سهل الموصل، وهناك بدأ بتأسيسها، وسبب هروبه يعود لقتله أحد اللصوص من عشيرة أخرى، وهناك بطل آخر، ولعله صوت الروائي وبعض مما في نفسه الذي يروي الأحداث بصيغة (أنا المتكلم) مسلم اسمه اسحق اعتنق المسيحية للخلاص من الظروف الصعبة، فالتجأ إلى دير الإيقونات في بيروت بحثا عن أوراق ثبوتية لإثبات وجوده الإنساني ويعيش فيه سبع سنوات وهو يتدرج في الرهبنة حتى وصل مرحلة مكنته من الارتقاء في عالمها الشائك لتقديم أطروحته الإشكالية ليواجه بها الفاتيكان.
نوع مثل هذا من التلخيص بالتأكيد سيظلم الرواية التي بنيت على «إطارية»، كما أسلفنا، تدور في الأسئلة المهمة والخطيرة، وقد تكون بعيدة عن تمثلاتها الإشارية، أو تلميحاتها المبطنة التي تفضي إلى المزيد من التعقيد والتشابك أكثر مما تطرح الإجابة التي تقربنا من الحقيقة، وهي تلميحات وإشارات غالبا ما تؤدي إلى تشتيت ذهن المتلقي وحرفه عن متابعة جوهر البحث «الروائي»، وتبعده عما يمكن من سعيه لالتقاط بثها في متون تلك الخطوط السردية التي تدحرجت كراتها الثلجية باتجاه الهدف المرسوم للعمل الروائي برمته.
فالرواية ذات إطار فلسفي – أخلاقي ـ وجودي، نهل الروائي معظم ترجيحاته، وإشاراته، من بطون الكتب والوقائع التي خاضها المكون المسيحي في نشر رسالته داخل بلاد الرافدين، وهنا لابد من الإشارة إلى الجهد في استعراض تاريخية العلاقة بين مسيحيي الشرق والغرب والانشطار المذهبي القائم بينهما حاليا، ففي الإطار الأخلاقي يطفو إلى السطح ما تسميه الرواية بالتسامح، إذ أن قوانين دير الإيقونات وجدناها تقبل بشخص مسلم مثل إسحق لينتمي إلى المسيحية، وهو انتماء اضطراري، كما سيأتي كشفه في سياق ما يبثه النص، نجده يجسد «التسامحية» بقبول هذا المسلم ضمن الدير ومن ثم تدرجه في المجاهدة والصوم والصلاة والتقشف والفقر والعزلة والبتولية، وهي الفكرة الرئيسية التي بنيت عليها المسيحية الآشورية الشرقية التي تهدف إلى مخالفة ما أنتجته المسيحية الغربية في الفاتيكان من عقائد يرى القيمون على الآشورية تعارضها مع قيم المسيح المبنية في إطار «التسامحية» والانفتاح على كل إيقاعات الحياة الجمالية كالزواج والعشق والحب والعمل في كل شؤون الحياة ومنها حراثة الأرض كما فعل الرهبان الذين ينضوون إلى دير الإيقونات.
وفي الإطار الوجودي، سنجد رحلة جوزيف الراعي المتمسك بالشيوعية في وقت مبكر من حياته، الذي تزوج أرملة صديقه سيسيل بعد مقتله على يد قناص في حرب إيران، ورعايته لبناتها الثلاث ثم هروبه من قريته مركا الواقعة في سهل الموصل، بسبب مواجهه له مع لصوص أرادوا سرقة أغنامه فقتل أحد أولئك اللصوص. هذه الرحلة، لعلها ستكون واحدة من الثيمات الرئيسة في استنطاق الأسئلة الباحثة عن الناموسية الإلهية، طرحها شاكر نوري في لعبته مع رشقات سردية ومبثوثات يجتزئ فيها من سيرة هذا الراعي ما يلائم مخططه، تتفاعل فيها ريشة الرسام المتمثلة بإسحق بإيقاع موسيقي شبيه بالموسيقى التي يتقنها جوزيف، فالرسام إسحق، يحيلك إلى الرسام السردي شاكر نوري الذي يرشقنا بالخبطات اللونية بالغة الجمال، بالغة الحساسية عن حالة جوزيف الموسيقي الشيوعي المترهبن على امتداد 220 صفحة، وتتموضع دلالات هروب إسحق من بغداد ومقتل ابن اخته الذي رافقه في رحلته وصولا إلى دمشق التي سجن فيها لانعدام وجود الأوراق الثبوتية وخروجه بعد سبع سنوات من السجن مسببة له المعاناة والألم .. هذه الرحلة تتماهي مع رحلة جوزيف، عبر إيقاعات، جاءت تتناغم موسيقيا، كما في أعمال الموسيقار الشهير فيفالدي، وكشفت في الوقت نفسه عن موهبة جوزيف الأب المؤسس لدير الإيقونات في بيروت.
وفي الإطار الفلسفي سنجد الأب جوزيف قد تزوج سيسيل الأرملة التي كان زوجها صديقا له وتكفل برعايتها مع بناتها الثلاث، والذي هرب بمساعدة الأب مار يوسف بعد أن آواه في الدير طوال فترة هروبه درءًا من الثأر به، هذا الهروب الذي حصل له من الموصل إلى بيروت أدخله إلى الرهبنة لأنه وجد فيه الخلاص الإنساني لحياته، وهنا، تطرح إشكالية التحول في العقائد والقبول بما تفرضه قوانينها في الدير والتماهي به إلى حد الارتفاع والانطلاق إلى الإجابة عن الأسئلة الكبيرة المهمة في البحث عن الذات الإلهية .. ثم الإتقان والصعود في العرفانية الرهبانية إلى مستوى بلغ بها حدا جعلت الفاتيكان تناقش طروحاته ومن ثم محاكمته واتهامه بالهرطقة.
مستويان من البث السردي، سار بهما الروائي، ترك بينهما علامات واسماء وإشارات حاولت أن تنهض في الوصول إلى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، هذان المستويان، يفترقان ويلتحمان، كل حسب معطيات كرات الثلج الصغيرة المبثوثة هنا وهناك من القول السردي، وما تركه نفعهما أو ضرهما في خطاب المتن الحكائي كله، وما تحمل خاصية ودلالة كل كرة ثلجية من تلك الإشارات في تثويرها المخيال الروائي لتمتين حقوله الإجرائية، فسيسيل التي تزوجها جوزيف، كانت حبلت بإسكندر، في وقت هروبه من الموصل، ولا نعرف بعدئذ بالمصير الذي لقيه الابن إلا في وقت متأخر من النص، ومقتل الأب شربل المفاجئ داخل الدير بدون تمهيد ثم عدم التمكن من الوصول إلى الجاني، الرسائل التي كتبها جوزيف إلى إسحق التي يسلمها له الأب سامر في المطار، هجرة الآشوريون من بلاد الرافدين في وقت الانتداب الفرنسي وفي تعداد عام 1932 اعتبروا لبنانيين على الرغم من أنهم بدون هويات، تهمة الشيوعية طاردت الآشوريين لكون بعضهم جاء من روسيا، كل هذه المبثوثات جعلت البطل إسحق أن يتنكر بجبة الكاهن فوجد نفسه مختبئا تحت ثياب الله (كما جاء ذلك في النص)، ثم أن اسمه اختاره أهله بمصادفة محض، فهل ساعدت في تشييد معمار الخطين الكبيرين اللذين سارت عليهما الرواية، وهما رحلة جوزيف ورحلة إسحق، وكلاهما التقيا في البحث عن السؤال الكبير والفطري عن الله، الأول جوزيف، مضى إلى سبيله في البقاء داخل الدير إلى آخر المدى والآخر إسحق يكشف عن نفسه بالقول «شر الشرور أن تعيش عذاب الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين من دون ايمان حقيقي يسكن روحك».
زمن الرواية ثلاث ساعات، هي رحلة الأب الحقيقي «جوزيف في الارتقاء بدير الإيقونات، على الرغم من دوافع انصهاره في الرهبنة كانت أبعد من الفطرة التي أشرنا إليها، ورحلة الأب «المزيف» إسحق إلى الفاتيكان بعد حصوله على الجواز الأحمر الذي سيمكنه من الوصول إلى أوروبا التي هي هدفه المنشود، والعيش بلذائذ الحياة والرسم والصعلكة ومطارحات الغرام، وظهر ذلك ابتداء من لحظة صعوده الطائرة التي وجد أن المضيفة الجميلة فيها تغمز له بالنزول معها في الفندق الذي ستسكنه، بعد أن استبدل جلباب الرهبنة في حمام الطائرة.
ماذا يمكن أن تقوله الرواية في المآل الأخير؟ حسب ظننا أن شاكر نوري أراد أن يطرح الاسئلة، من دون الإجابة عنها، فضلا عن أنه أراد إدانة تهجير المسيحيين في بلاد الرافدين وقتلهم ومطاردتهم من قبل العصابات الإجرامية، وتكفي الإشارة إلى ما حصل في كنيسة النجاة في بغداد، وإن مر عليها مرور الكرام برشقة سردية لا تخلو من الحكنة، الإشارة كانت تكفي لقول كل ما يمكن قوله في الإطار المرسوم. لابد من البيان في الأخير أن الرواية تركت أسئلتها على قارعة الطريق وعلى المتلقي أن يبحث عن الأجوبة الشافية لينتج من خلال فعل القراءة قراءته الخاصة في البحث عن الله .. أو البحث عن الذات، هروبا من الجحيم الأرضي المنصوب لعابري السبيل في هذه الحياة.
_______
*المصدر: القدس العربي