أنوار الأنوار*
خاص ( ثقافات )
كاذبًا كان جدّي، كان يجيد الحكيَ حتى إخراسنا، فنجح أن يغرسَ فينا أوهامًا كثيرة، منها مثلًا أن الغولة القابعةَ في الغابة القريبة منّا كانت تقضم أولادَها وترتوي من شرب دمائهم ممزوجةً بالعصير. وأنّ الرّبَّ الذي بارك غابتَنا قد لعن الغاباتِ الأخرى، يوم هبط إلينا، وتلذّذ إذ ذاقَ ثمار الأشجار، وقشّر عنها أشواكها. أقسم جدّي من المرّات آلافًا أنّ اللُّبّ لدينا ممزوجٌ منذ قرونٍ بلُعاب الرّبّ وخلطته السحرية، وأنّ اللعناتِ ما فتئت تمطر في الغابات الأخرى بؤسًا وخيبات.
وكبرنا وفينا شهوةُ حرصٍ أن نلعنَ غاباتِ الغيلان، ونسبّ تلك التي خانت وصايا الربّ وغشّت لُبّ أشجارها إذ روَتها بماءٍ محموم. وظللنا نصلّي لاسم جدّي المبارك في كلّ حين.
وحده الفضول قادني يومًا إلى غابات الغولة الملعونة، يوم تسلّلتُ إلى جدرانها فسمعتُ تهاليلَها لأبنائها، وأغانيَها لهم. جفلتُ إذ رأيتها تعانق أبناءها وتضمّهم ، لا تعضّ ولا تقضم، ولا يخرج من فمها إلا حبّهم واللعناتُ على جدّي الأكبر، وارتعشت من خشوع دعائها إذ تمتنّ لربّ بارك حدائقها ولعن غاباتنا. كانت تشتم جدّي إذ تهمس لرضيعٍ باسم من قتل أباه، وحرّم ماءَ الحياة عن غاباتها، ساعيًا أن يسرقَ ما بارك الله من ثمار حدائقها. فيما تنسج تهاليلها بدعاءٍ للربّ أن يحفظهم ويباركهم كما بارك أشجارها منذ أوّل الأجداد.. صارت الحكايا كلّها تتصارع في ذاكرتي والمخيّلة إذ أشرب رجفةَ الصدمة . لم يكن ممكنًا أن أصدّقَ أنّ جدّي قد كذب علينا بحكاية التهامِ الغولة أبناءَها، ومباركة لب ثمارنا وحده دون سواه. عاودتُ التلصّصَ كلّ ليلةٍ ما أن ينامَ الأهل، فيما يرجّني ما أراه متقاتلًا في رأسي مع تراتيل جدّي التي انغرسَت فيّ. ولمّا أيقنتُ أنّ الغولةَ الملعونةَ لا تشبه ما حكاه عنها جدّي، عدتُ أهمس لإخوتي بما رأيتُ فصفعوني شاتمين. لملمتُ خوفي والاندهاشَ وأقسمتُ سرًّا بأني سأهبط غابتها كل حين، وأبحث عن كلّ لُبّ أجده هناك .
لم يكن تسلّق جدرانها سهلًا وسط ما أحاط به من الأشواك، ولكن ما تقافز في ذهني من سؤالٍ كان أبلغ للوصول. لياليَ طوالًا قضيتُ حتى نزعتُ القشر بأشواكه لأذوق اللبّ. وأدركتُ أنّ جدّي والغولة وجهان لأوهامٍ لم تصدُق الأبناء. أكلتني الرعشة وأنا أعاهد نفسي أن أظلّ أمزّق كلّ روايات الأجداد . جُبتُ من الغابات ما استطعتُ، لعلّي أكشف أسرارَها، وأخون حكاياتهم كلّها بمعرفة الحقيقة والبحث عن ربّ لا يكذبون عليه ولا عنه.
مرّةً وفي غابةٍ بعيدةٍ لغولٍ غريب، وبينما كنتُ أجوب مفجوعًا بتقشّر أقنعة مَن خدعونا، التقيتُ بأحد أبناء غولةٍ مجاورة.
صدفةً كان هاربًا إلى فضوله مثلي فاجتمعنا. عضّتنا الصدمة أن لا أحد منّا فغر فاهًا ليفترس الآخر. رحنا نبحث عن غيلان الغابات كلّها، حتى عرفنا ما خفي .، وأقسمنا أنّ الأجداد ما قالوا إلا كذبًا وزورًا، وأنّ الربّ بريءٌ من كلّ كلّ الروايات. مزّقنا خرافاتهم، وتوحّدنا عشقًا وتحليقًا وأغنيات، حتى قرر كلٌّ منّا العودةَ إلى إخوته، كي يكشفَ ما خفي عنهم، وتصير الرؤية مفتوحة، وكي يشهد أنّ لا غولة قضمت أبناءَها إلا بما أورثتهم من حكايا الزيف لتكبّلهم بالأقفاص، وأنّ الربّ لم يهبط أصلًا لأيّ من الغابات، ولا بارك لُبًّا من أيّ ثمار.
لم يبقَ منّا إلا فُتات لحومنا التي مزّقها الإخوة إذ سمعوا شهاداتنا، وما تناثر منّا زاعقًا من شظايا السؤال..
*كاتبة فلسطينية من الجليل
2014