فوزي كريم
في غمرة تأملي بشأن “القصيدة المفكرة”، وأنا أنجز كتاب “القلب المفكر” في الشعر، قرأتُ كتاباً صدر عن أكسفورد، للمفكر الإيراني مهدي أمين رضوي، بعنوان “نبيذ الحكمة” عن الشاعر عمر الخيام، في حياته، شعره وفلسفته. والخيام، كما نعرفه، شاعرٌ بالدرجة الأولى، عاش في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، (تُقدّر وفاته بسنة 515)، أي في القرن الذي ختم فيه الشعر العربي مراحل إنجازه لشعره، الذي نفخر به اليوم. قبل أن يدخل في عتمة مرحلته المظلمة، التي انصرف فيها الشعر إلى العبث واللعب اللفظيين.
ولأن شعراً مجاوراً آنذاك، كالشعر الفارسي والهندي والصيني، لم ينصرف هذا الانصراف اللفظي العابث، لدليلٌ على أن هذا الميلَ اللفظيَّ سمةٌ كامنة في الشعر العربي منذ مراحله المبكرة. لأن الذي جاء بعد الخيام في الشعر الفارسي أصواتٌ شعرية من طراز جلال الدين الرومي (توفي قرابة 672ه)، وسعدي الشيرازي (قرابة 690ه)، وحافظ الشيرازي (قرابة 792ه). وجميعهم شعراء بالدرجة الأولى، ولم يُحسب لهم ميلٌ لهذا العبث اللفظي والبلاغي. مع أن الشعراء الثلاثة يُتقنون العربية ويكتبون الشعر بها، وأقاموا زمناً في بغداد للدرس والتحصيل. ولكن أحداً منهم لمْ يُنتزع من هذا الميل الشعري، التأملي، ذي النَفَسِ الفلسفي. بالرغم مما يُروى عن سعدي الشيرازي أنه كان ذا تأثير على الشعر العربي، ولكنه تأثير يقتصر على النظم الموسيقية المعروفة في الشعر الفارسي، ولا يتعداه إلى هذا القلق الروحي، التأملي، ذي النَفَس الفلسفي. ونحن نعرف أن هذا العامل بالذات هو الذي جعل لأصوات هؤلاء الشعراء أصداءً تتردد، وتتسع مع السنوات، في الشعر العالمي، والفكر العالمي، والذائقة العالمية. وهو العامل ذاته الذي حرم الشاعر العربي من هذا الأفق، إذا ما استثنينا شاعراً بالغ الشذوذ في ميله التأملي كأبي العلاء. ولكنه مع ذلك لم يجد له مُتّسعاً بين الخيام والرومي والشيرازييْن.
ويُنكر عليّ كثيرون هذا الموقف، وعادة ما يستظلون براية النظريات العنصرية التي أملاها الغرب في مراحل الاستعمار، مع أن أحاديثي لا تتجاوز الملموس، والتاريخي، إلى النظري المجرد. ولا تتجاوز ما كتبه مؤرخو العرب والفكر العربي أنفسهم، من أمثال أحمد أمين، وطه حسين، وجواد علي، وعلي الوردي، والجابري، وكثيرين غيرهم. ولكن الاستظلال بالراية النظرية، والهرب من مواجهة النفس لا الآخر، هو ذاته وليد ميل لفظي، للأسف. لأن الميل اللفظي كالميل الزخرفي في الفن البصري محضُ تجريد. وإذا صلُح هذا على الفن البصري، الذي عماده الجمال، فإنه لا يصلح بالضرورة على الفن الكلامي.
وإنني لا أشذّ عن منطقي هذا حين اعتبرت موقف الشاعر أدونيس، بشأن الشعر والأخلاق (راجع أعمدتي السابقة)، إنما ينتمي في جوهره لهذا الميل اللفظي، حين يرى أن الشعر يجب أن يقوّمَ جمالياً فقط. أي، على سبيل المثال، يجب أن نقتصرَ على الاحتفاء بتأثير سعدي الشيرازي على الشعر العربي، بالنُظمِ الموسيقية المعروفة في الشعر الفارسي فقط. ولا نتجاوزه إلى أفق ورؤى الشاعر الروحية والفكرية.
وهذا صدى لرأي الجاحظ، شيخِ النقاد، في عصر الازدهار العربي. فقد كان يرى الشعرَ، لا في المعاني: “فهي مطروحةٌ في الطريق يعرفُها العجميُّ، والعربيُّ، والبدويُّ، والقرويُّ، وإنما الشأنُ في إقامةِ الوزن، واختيارِ اللفظ، وسهولةِ المَخرجِ، وكثرةِ الماء، وصحةِ الطبعِ وجودةِ المعنى، لأن الشعرَ صناعةٌ وضربٌ من النسج والتصوير.” وجاء رأيه الشهير هذا في معرض نقده لذائقة أبي عمر الشيباي، الراوية، لفرط إعجاب الأخير بالبيتين التاليين:
لا تَحْسَبَنَّ الموتَ مَوْتَ البِلى وإنما الموتُ سؤال الرجالْ
كلاهـــــما مـــــــوتٌ ولكـن ذا أقطعُ من ذاك لِذُلِّ السؤالْ
فالشيباني أعجب بالمعنى. والإعجاب بالمعنى لا يعني إنكار جمال الصناعة. لأن جمالَ صناعة الشعر، كما أرى، وليدُ جمالِ المعنى بالضرورة. ولكن الجاحظ وأدونيس لا يرغبان في النظر إلى فن الكلام بهذا المنظار.
هذا استطرادٌ ضروري، لا يخرج عن سياق رغبتي في الحديث عن كتاب المفكر الإيراني مهدي أمين رضوي، الذي سأواصله في حديثي القادم.
——-
الجريدة الكويتية