هذيان المستقبلية والدادائية في الأدب والفن


*محمد الأسعد


مرة بعد أخرى اعتادت ساحة الشعرية العربية على استقبال الموجات، وآخرها على فترتين كانت: الشعرالمجسم،الشعر المستقبلي، بيان السريالية الأول، وقبل ذلك بيانات «دادا» ونمط احتفالاتها الصاخبة والمثيرة..إلخ. في المرة الثانية يحدث اختلاف عن المرة الأولى، فلا يعود الأمر بحثاً عن قيم ورفضا للبالي، بل لاعتقاد راسخ بعدم جدارة القيم باهتمام الفنان «الكبير»، وعدم وجود مثل هذا الهدف، ذلك لأن طابع العصر، كما كررت كثيراً أقلام بعض الكتاب، هو الجنون. والعصر العربي كما يقال هو عصر غامض وغير مفهوم، ولا حاجة للفهم والوضوح لأن الحياة هكذا والوجود هكذا.

كانت المرة الأولى في أواسط أربعينات القرن العشرين حين حظيت السريالية الأدبية باهتمام عدد من العاطلين بالوراثة، ثم تزايد التأثير في أواخر الخمسينات، وظهرت على صفحات الصحف محاولات شعرية جديدة وبيانات حشدت مقتطفات، من دون إشارة إلى مصادرها، تطالب بتهشيم المعنى التقليدي للجملة واطراح أساليب التركيب المعتادة لغويا وصرفيا ونحويا. فالبوار والعقم والضحالة طوابع الحياة العربية، و«المفازة» أو «جب الأسود» أو «سدوم»، هي الرموز المفضلة لأناس اضمحلت أحلامهم الكبيرة تحت بساطير الجندرمة والدرك، لأولئك المشردين الذين خرجوا من معاطف أحزاب النخبة التي خذلتها واقعية البوار وبلاهة المسوخ والجموع التي «يعلكها دولاب النهار».
لم تكن نتائج ارتجال الهذيان هذا سيئة إلى الحد الأقصى، فحتى الهذيان قد يكسر الرتابة أحياناً ويمهد لميلاد نص معقول عبر مئات الإخفاقات. وهكذا كان مصير هذه الموجة التي خلفت شظايا في زوايا ورواسب عدة في تطلعات عدة، لتنطلق مجددا بعد حزيران 1967 وهي أقل انفلاتاً من المصائر التاريخية، وأقل إحساساً بالعبث والعدم.
وقبل أن تعود الموجة الثانية وتنتشر، كما هو واضح من رواسب «الكتابة الآلية» والقصيدة «المصورة» أو «المجسمة» التي ظلت تومض هنا وهناك، من الأفضل وضع هذه المحاولات في إطارها التاريخي حتى لايخرج علينا غداً من يدعي اكتشاف النار، أو العجلة لمجرد أن غالبية القراء تجهل أنها مكتشفة قبل آلاف السنوات.
هنالك محاولات لمواصلة كتابة القصيدة الآلية أو القصيدة المجسمة، أو تلك التي تعتمد على جماليات الحرف العربي بما يسمى قديما «التشجير»، ولم يصل الوضع بعد إلى كتابة «القصيدة البكماء»، أي تلك التي تتخلى عن الكلمة تماماً. القصيدة المركبة من كلمات وصور مرت مسرعة، ولم تلفت انتباه أحد في مطلع سبعينات ذلك القرن الآفل. 
ويبدو أن الحاجة أصبحت ملحة لدى بعضهم لإعادة بعث الأساس النظري مجدداً، أو التي يقال إنها النصوص الأساسية التي صدرت للعالم هذه الأساليب، ليكون مفتتح هذه الموجة مجدداً، وإنشاء المدارس، في وقت يعتقد فيه هذا البعض أنه مناسب من كل النواحي ذاتياً وموضوعياً. فذاتيا يستخدم هذا الارتداد إلى أشكال الترددات العدمية في الفن والأدب لتبرير عدمية المواقف الفكرية من القضايا الساخنة، وليس هناك أسهل من اتهام التاريخ بالعبث تبريرا للمواقف العدمية الذاتية. وموضوعياً، يبدو الإحباط الواسع الذي يشعر به الإنسان على أشده، إحباط يرافقه السأم والرتابة من اللغات الشائعة؛ أخلاقية كانت أو سياسية أو أدبية. ومثل هذا الإحباط بحاجة إلى تصريف ولو بلعبة عابثة مثل المقامرة، أي الإنخراط في لعبة المصادفات، رغم أن للمقامرة قوانينها القائمة على الاحتمال.

سيكون العبث واللعب على أشده إذن، وسيتدعم بأطروحات نظرية، ليس إعادة نشر أفكار «تزارا»، أو «ماياكوفسكي»، أو «مارينتي» في سنوات الحرب العالمية الأولى إلا مقدمتها الضرورية. وسيتعمق بحروف أنيقة الحديث عن انغلاق الأبواب والنوافذ أمام الإنسان العربي، وسيتم التشديد على لامعقولية الصراعات الدائرة، وعبث اتخاذ موقف إلى هذا الجانب أو ذاك. الكلُّ في عرف هذه التنظيرات يتساوى، فلا تمييز بين من يحمل هذه الفكرة أو تلك، ولم يبق إلا الجنون في ما يتعلق بالكتابة، أي ذلك النوع من التصور والنواح والتمرد الذي لايحتاج إلى منطق يبرره من أي نوع. وسيقال بالطبع أيضاً أن الكلمة أو القصيدة أو الرواية تعاني التخمة والورم، وأن لابد من ابتداع جديد خارج قمع الأشكال السائدة. 
الطريف أن من يقولون بهذا أو من سيقولون على الخط نفسه، هم أناس يتصرفون بعقلانية تامة ومنظمة حين يتعلق الأمر بالأرصدة المصرفية، ووسائل العيش المرفهة في عواصم الغرب. إنهم يثيرون تمرداً على آخرين أن يباشروه. وهذا واضح بما فيه الكفاية، إنها موجة تستهدف إدارة الساحة الثقافية بأجهزة الاتصال والتحكم عن بعد، وكأنها ساحة خالية تنتظر الفرج من مردّدي صرخات جنود الحرب العالمية الأولى.

هل هذه الدعوات نوع من الهرب؟ نوع من تبرير النهايات الرديئة؟ إن أفضل طريقة للدفاع عن الانحراف هي ابتكار نظرية تؤكد وتجمع البراهين على أن الانحراف مبدأ أصيل في الوجود وما عداه شذوذ. وفي هذه النقطة بالذات يختلف هؤلاء عن أصحاب البيانات المستقبلية والدادائية والسريالية، أي نقطة النزاهة على الأقل. لأن الدادائي الذي حلم بصناعة فن جماليات مضادة، والمستقبلي الذي تحدث عن طبيعة مضادة وكون آخر ضد الخداع والتضليل، لم يكن أي واحد منهما في زمنه ميكيافيلياً، بل كان أشد براءة من نقطة المطر. 
الأمور تقاس بسياقها التاريخي، السياق الذي ظهرت فيه هذه الحركات الفنية والأرضية التي نبتت فيها. وعلى هذا، من الأمور البالغة الأهمية معرفة أن المستقبلية والدادائية مثلا جاء ظهورهما قبل وفي خضم الحرب العالمية الأولى بعد أن أرهص بهما تاريخ طويل من التمردات الفلسفية والفنية والعلمية والاجتماعية. وبغض النظر عن حقيقة أن هذه التيارات اعتمدت وتعمدت إشاعة الفوضى وخلخلة السكون المشلول ولا شيء أبعد من ذلك، وبغض النظر عن خلطها بين طابع جزئي وسطحي هو ظهور الآلة وموت الملايين بسبب شهوة امبراطور، وبين طابع موضوعي هو تجدد الحياة وصراع الرأسماليات الصاعدة إلى مرحلة الاحتكار وضيق مساحة تقاسم العالم، بغض النظر عن كل هذا، فإن هذه التيارات أحدثت ارتجاجاً واسعاً وخلقت حوافز للتجديد وإعادة النظر، وقادت إلى استحداث تقانات وأساليب غير متوقعة، وفتحت منافذ أمام تطورات بالغة الأهمية في القرن العشرين. وكان دعاتها هم أول ضحاياها. ولم تكن قضيتها منفعية، بل كانت ضد المنفعية، ولم تكن جسوراً لطموحات هذا أو ذاك، بل مغامرة على حدود المجهول. 
رفض هؤلاء مجزرة الحرب الأولى وأخلاقيات عالم قاد إلى هذه المجزرة الرهيبة، ولم يكن هذا هو الاحتجاج الوحيد على الحرب، ولا الأقل دوياً، ولكنه المفجر في نطاق الفنون والآداب، وقاد إلى سلسلة من المواقف المتنوعة.
وهكذا، وتحت شعار تغيير العالم والمعاصرة وتقويض أسس الذوق القديم، ولدت موسيقى الضجيج ولوحة المقتطعات وقصائد الصوت المجرّد أو المجسم أو البكماء، وولدت بيانات الغضب والرفض، وأنماطٌ جديدة في صياغة المنحوتة واللوحة والمسرحية والرواية طابعها التلقائية والبساطة واختراق العادة والألفة ومفاجأة واكتشاف امكانات خامات ومواد غير تقليدية، وأساليب عرض جديدة.. وباختصار أصبح اللافن بحد ذاته «فناً». 
يقرأ ثلاثة أو أربعة أشعارهم في وقت واحد، وتقرع الأجراس مختلطة بهدير الآلات ونباح الكلاب في عرض مسرحي، ويقف اثنان أمام الجمهور يتصافحان إلى ما لانهاية، بينما كان ثالث يشعل ويطفىء أعواد الكبريت، يموء رابع مواء قط.
إن أفضل قطعة موسيقية كما قيل هي تلك التي يقف عازفها بلا حراك أمام الجمهور صامتاً أمام آلاته مدة عشر دقائق، ثم ينزل عن المنصة بهدوء، وأفضل قصيدة تلك التي تطلق أصواتاً لامعنى لها على الإطلاق، وتظل ترتل بوقار إلى أن يضج الجمهور.
كان طابع الصدمة والاهتزاز وإحداث شرخ في الحساسية التقليدية مبرراً في أذهان هؤلاء الغاضبين الذين بدأوا من أماكن مختلفة عانت ويلات الحرب.
يقول المستقبلي الروسي في العام 1912 «هذه الأشياء البالية يجب أن تموت حتماً». ويقول الدادائي الألماني «تسقط التعبيرية عديمة التعبير.. تسقط الرؤوس الأدبية الفارغة وأراؤها الهادفة إلى تقدم العالم». ويتردد الصدى بتلوينات مختلفة حتى يصل إلى أمريكا، ويجتاح القارات، ويصل إلى اليابان، وتخرج السريالية من هذا الركام الذي خلفته الحرب الأولى لتمنح كل هذا الفوران قواماً، ولتصنع أساساً فلسفيا وعلميا لكل هذا.
كانت الحرب الأولى، تلك التي جرّبها الجنود وفيهم فنانون وأدباء وظهرت حرباً بلا معنى كما عبر «ريمارك»، هي الدليل الملموس على انتفاء العقل من التاريخ في رأي بعضهم، فلا نظم عقائدية، ولا قوانين يمكن أن تفسر عالما ملقى بين براثن المصادفة وخاضعاً لغوامض اللاوعي.

هذه هي أرضية حركات مثل المستقبلية والدادائية والسريالية.. إلخ، تلك التي أولجت في مضمار الثقافة العربية مرات عدة من دون نجاح يذكر، وها هي تستهوي عدداً من نزلاء الفنادق الباريسية، وليس شوارع «زيورخ» المعتمة، والغرف الباردة في أحياء «باريس» القديمة.. فما أكبرها من مفارقة.
________
*المصدر: الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *