بول شاوول
كتاب الشاعر العُماني الجديد «زمن الرمة والحروب العبثية» (عن بيت الغشّام للنشر والترجمة، عُمان)، كأنه رحلة أوليسية» على غير انتظار أو شاطئ أمان، أو كأنها دوران في تواهة بخيط اريان والمينوتور الوحش يسدّ كل المخارج، أو غضبة داخلية على زمن التأكل والبربرية (زمن الرمة شبيه بزمن المينوتور)، والموت، والضحايا، والمدن، والخوف، وصولاً الى ذلك الحنين الربّاني الى من رحل من الكتاب قتلاً أو شهادة أو تعباً، أو تأثراً بمرض. فالراحلون راحلون، تمتزج في تذكرهم الدمعة، والتحسر، والفقدان، والشغور. الشغور المكاني الزماني. الجسدي والإنساني.
مجموعة مقالات ونصوص ومقاربات وخواطر وتأملات تبدو في ظاهرها وكأنها على تنوع أو ابتداء، لكن لدى قراءة الكتابة، نحسها وكأنها نص الخيبات، والكسور في زمن الديناصورات، والقتلة، والدكتاتوريات، والحروب، والاغتيالات، وإن بعناوين مختلفة، تحت مظلات الوحوش، وظلالهم المعدنية، وما ينحونه هنا من «رمة» وهناك من «عمى جماعي» وهنالك من جنون عالمي. إنها صرخة شعرية يطلقها هذا الشاعر الرقيق في وجه القساة، وغضبة مدوية يطلقها هذا الشاعر الإنساني في وجه الوحوش كأنه يكتب تراجيديا هنا ودراما هناك وسخرية في أكثر من مكان، وحنين يلفه الى ماضي المدن العامرة كدمشق وبيروت والقاهرة وابولينير، وسارتر، وكامو… ذكريات الأمكنة هي ذكريات ناسها، بنصوصهم، وأيامهم، وقسماتهم، وأمراضهم، وشعرهم، ونثرهم. فما أقسى هذا الحاضر الذي أغلق دفتي الزمن: الماضي والحاضر. كأنما الحاضر هو «الرمة» الآكلة، المفترسة، الناخرة، المدمرة، الساحقة، تفترس كل ما هي حي، النبات، والإنسان، والشجر والسماء. فأي حاضر هذا، كما يقول سيف الرحبي، الذي يطبق علينا، ويعمينا ويشوش إدراكاتنا، ويرمينا في متاهات الضياع والريبة والتوحش والبربرية، والقطيعية (العمى الجماعي)، والغرائز، والعبث في وجوه الغاشمة، السائبة، المفتوحة على تراجيديات الوقت، والأجسام، والتهجر، والترك، والرعب؟ من أطلق كل هذه المسوخ من قمقمها، من سجونها، من جوفياتها المظلمة، الشيطانية. بل كأنه يقول إنه زمن التخلي: تلك اللحظة التي يفقد فيها الإنسان كل أمل، في هذه الدنيا وأبعد منها، فيتشيّأ، ويتحول كائناً تسوقه «الآلة الجهنمية»، بلا وعي، ولا رحمة، ولا إدراك، سوى المحو، والكسر، وسحق الكائن، وتحطم المدن وروحها، والشرائع وقوانينها، والدين وإلزاماته، والحرية وأدواتها، والمستقبل وآفاقه… هذا هو الزمن الذي نعيش فيه. قالها سيف الرحبي بعنوانين مختلفة. قالها هنا دمعة، وهناك فعلاً، وهنالك مراجعة لكل هذه المآسي والوجوه… بلا واحة. يقولها الرحبي. لكنه، وعلى الرغم من ذلك، كأنه، كسواه من شعراء قلّة، يتسلح بالشعر، وبالحرية، وبالحنان، وبالخوف على ما تبقى. إنه الشعر، بمعناه التعبيري والتأويلي، لكن بقيمه الداخلية المتجسدة في النبل، وفي التعاطف مع كل مظلوم وفي الانحياز الى كل صارخ أو حر، وبمواجهة كل طاغية. سلاحه الشعر، وهو سلاح ماضٍ، سلاحه الكلمة عندما تصدأ كل الأسلحة بدمائها. وهنا بالذات، علينا أن نقارب هذه المشاعر الاغترابية التي تنتجها هذه الحالات والتراجيديات والوحشية. والاغتراب عند سيف الرحبي، هو شعور صميم مفتوح على ما يحيط بنا، من تناقضات، وهلوسة، وغثيان، وهذيان، كأنما بات متعذراً عليه فهم هذه اللغات التي قتلت كل معنىً وكل إشارة، وكل تواصل. وكأنه، في ذلك، يبحث عن زوايا منقشعة في ذاكرته، عن أسماء ووجوه، عن قامات شعرية رحلت عنا، وكانت لها المنازل في قلوبنا، وذائقتنا وضمائرنا.
فها هو يتذكر الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، بشعره، ومرضه، وغربته، ونهاياته الكئيبة. وينتقل الى يوسف الخال، مؤسس مجلة شعر، في حياته وموته، ثم أنسي الحاج، «جامع شمل الينابيع» ليتوقف عند قصيدته الطويلة: «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»؟ من دون أن ينسى الكاتب الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني الذي اغتالته إسرائيل، وصولاً الى الشاعر بسام حجار الذي غادرنا باكراً، هو والشاعر المصري حلمي سالم «في نزهته السريعة».. ويتوقف عند هؤلاء الراحلين بأسف المحب، وبفقدان العطاء، وباسترجاع ملامحهم التي ذابت في الموت الى الأبد.
ومن تلك الأوراق الرثائية، الى صفحات الأصحاب العرب، من «سطوح بول شاوول»، الى «سيرة عبده وازن»، الى «غرام علوية صبح» الى شارع ابليس الجزائري أمين الزاوي.
إنها اللحظات الاستثنائية التي يصطفيها سيف الرحبي، في هذا الركام المتكدس من الخراب، والموت، والدمار، والهدم، والهجرات، وموت المدن، والحضارة والتاريخ والزمن.
الكتاب زمن مفتوح على ما يوحده وما يشرعه على ما يؤنسه وينفره، على ما يشد إليه الحنين وما يسوقه الى الأسف، على ما يذكره وعلى ما لا ينسيه. بطاقة من الحنان، والوفاء، والمشاعر العالية، تجمع كل عناوين كتاب الرحبي.
ثقافة الرعاع
في رأسه المحتشد بهوام ليل ضار بحرّه وهواجسه ووحدته، يغض بالذكريات والوجوه يحاول أن يهرب من أي ماضٍ حميمي عاشه في هذا المكان أو تلك البلاد، يحاول أن يقطع خيّة الوجوه الضاجّة في رأسه وأعماقه التي أصبحت لا تزيده إلا وحدة ويأساً، بعد أن كان يستدعيها نجدة وسنداً روحياً، لحظة احتدام الأسى والتداعي، على مشارف الاستسلام والانهيار..
في مثل هذا الليل، وليس النهار بأمثل، الذي لم يعرف مثيلاً له في ما انقضى وانقرض من أيام وليالٍ في حياته، التي حين يحدّق في خضمّها ومطارحها المتشظية، يراها مديدة وطويلة أكثر مما يلزم لحياة أمثاله المرتطمة دائماً بمحيط شديد الجذرية في اختلافه واندفاعه الغرائزي القطيعي.. أولئك النفر المقدّر له أن يعيش بين ظهرانيهم لا يعانون وخزة ضمير عابرة، بل بالعكس، يشعرون بالارتياح والانسجام، كما يليق بالوضاعة القيمية المجردة من أي بعد أخلاقي وإنساني، يشعرون بالارتياح والسعادة، حين يُباد أطفال ونساء ورجال، حين تُرتكب المذابح والأهوال الدموية، في حق قوم، يتوهمون الاختلاف والفروق معهم عبر تربية محتشدة بالكراهية والبغضاء، لا تردد، بل، من مقومات وجودها واستمرارها على هذا النحو الفظ، استدعاء تاريخ ووقائع، وغرسها في تلك النفوس البائسة مشبعة بالتحريف والدجل والتوجيه الايديولوجي الطائفي… وليكون التاريخ ذلك المعين الذي لا ينضب من الخرافة القاتلة، أمثولة تمد حروب الحاضر بعتاد المعركة الطائفية والفئوية التي لا تبقي، مكتسحة كل إمكانية للصلات الإنسانية، لصلات التعايش والتفاهم بين مكونات البلد الواحد والتي تقتضيها أي حياة عليها أن تستمر على نحو من كرامة إنسانية وبداهة معيش مشترك، بداهة الوجود حتى بين أهل الغابات والمغاور والكهوف… ومكتسحة كل فرصة أمل ضئيل يلوح لتقدم حضاري لمجتمعات رزحت عقوداً، إن لم أقل قروناً تحت ثقل الاستبداد والعبودية والانحطاط..
ذلك النفر الطائفي الذي يسود البرهة التاريخية التي نعيش في دنيا العرب، لا يمكن الحوار معه على أي جهة منطق وطموح لاستقامة رأي يتوسل أفقاً مفتوحاً لهذه المحنة التي تصبغُ كل شيء بدمها المتدفق شلالات وأنهاراً، بعد أن ضنّت الطبيعة بأنهارها وكرمها..
وصار التعصب الكاسر الأعمى، المعبّر عنه علناً أو خفية وضمناً، حتى في المجالات التي من طبيعة تكوينها ووجودها ضد هذه الوجهة الهمجية الغرائزية الدهماء كالأدب وحقول الفكر وكل تجليات الانتاج المعرفي، صارت ميداناً لتموضع هذه الغرائز ونوازعها واستيهاماتها، إنها ثقافة الرعاع بالفعل كما عبر الدكتور أحمد برقاوي..
يبقى صراخ الضحايا، من كل فرقاء البلاد المنكوبة وأحلام الطفولة الموءودة يطبّق على عنان سماء شعثاء لا مبالية، وعلى عنق التاريخ، وصمة عار على وجه الأرض وبشرها.. أرض العرب خاصة..
السياب بعد نصف قرن
«تشبث بموتك أيها المغفّل/ دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب/ فماذا الذي تريد أن تراه؟/ كتبك تباع على الأرصفة، وعكازك صار بيد الوطن…
أي وطن هذا الذي يجرفه الكنّاسون مع القمامات في آخر الليل..؟».
ما أصدق هذه المخاطبة أو المهاتفة الصريحة من محمد الماغوط الذي كان على قيد الحياة، قبل أن يدلف الى رحاب الموت المُشتهى ويلحق بصديقه بدر شاكر السياب..
هذه الرؤيا التي تستشرف الكارثة المتحققة بكثافة مأساوية صاعقة على أرض الشاعرين الكبيرين، وسط عالم أصبح الموت والإبادات لديه ما يشبه الفرجة اليومية والتسلية. وحضارة كبرى مطلقة القوة لا تفعل شيئاً رغم ادعاءاتها الإنسانوية والحقوقية، إلا تنظيم المذابح في بلاد الآخرين المتداعية، خاصة تلك التي أوقعها قدر الجغرافيا الحزين قريباً من الدولة العبرية. وتوزيع الأدوار وإيهام بعض الدول بندية تسكن الوهم والخرافة أكثر مما تسكن الواقع والتاريخ…
تسلية الوحش الضاري المدجج أمام حيوانات يمكنه التهامها لحظة يرى في ذلك ضرورة منفعة ومصير. إلا إذا تغيّرت موازين القوة جوهرياً وليس من دلائل حاسمة تلوح في الأفق. أو كما عبر الجنرال الروسي الراحل (ألكسندر ليبيد) الغرب الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مثل الثورة الهائج وسط معرض من خزف. لكنه ليس هيجان القوة العسكرية فحسب وإنما جاذبية القوة الناعمة وإغراءاتها الأكثر فتكاً مع مرور الزمن.
الكنّاسون القتلة محترفو الإجرام والطائفية والانحطاط، لم يعودوا قادرين على كنس الجثث وأشلاء الأطفال والشيوخ، الرجال والنساء الى هاويات المقابر الجماعية أو باتجاه الخلاء الموحش الذي تحوم في أجوائه الجوارح ومفترسو الجِيف المنتنة والأوطان..
وما أصدق رؤية السياب في مقاربته للشاعر الحديث بخميس مجلة (شعر) حين حضر بدعوة من الراحل يوسف الخال: انها تجسيد لروحه المعذبة وروح جيله والأجيال اللاحقة من ذوي الحساسية المرهفة: «لو أردت أن أتمثل الشاعر الحديث ما وجدت أقرب الى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل».
هذه الرؤيا قد خرجت حتماً من مجازها الشعري، الديني، الى الوقائع اليومية والمعيش..
«أصيح بالخليج: «يا خليج»/ يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى/ فيرجع الصدى كأنه النشيج: /يا واهب المحار والردى».
لم يعد هناك أيها السياب حتى المحار الذي كنت تصغي من ضفافه المتخيلة الى صدى الموج والبحر، وليس اللؤلؤ فحسب..
استعادة بدر شاكر السياب بعد نصف قرن من تحقق تلك الرؤى القيامية المروعة، استعادة لريادة حقيقية في الشعرية العربية الحديثة التي أنجزت الكثير عبر أجيال وأنماط تعبير مختلفة… استعادة لمجد المخيّلة، حتى لو كان حاملها جسدٌ عليل.
استعادة لطفولتنا، أحلامها وأوهامها وطموحها المكسور.
بسام حجار
بسام حجار، رحل عن عالمنا؛ مضمون رسالة تلفونية من رؤى عبود في صيدا، حيث يسكن بسام المدينة الساحلية التي ربما لم يغادرها الى بيروت الا للعمل والرجوع اليومي إليها..
رؤى، طبعاً حزينة وحمزه عبود والدها، الذي كان الراحل بمثابة أخ وصديق له كما لمعظم أهل الثقافة والأدب، خاصة تلك المجموعة المبدعة في مجالات شتى والتي كانت صيدا حاضنتهم في الحرب والسلم، إن وجد، مع انعدام النظر عن الدين والطائفة والعائلة وسائر هذه العناصر المدمرة لروح الإنسان وعقله، التي تقف الآن شامخة على أنقاض الأحلام ورؤى الاستنارة والوحدة والانسجام بشتى المعاني والدلالات.
تعود بي الذاكرة الى مطلع الثمانينات، حين تعرفت على بسام حجار في باريس قادماً من لبنان الرازح تحت نيران الحروب الأهلية..
كنا نقضي معظم الأماسي في حومة الحي اللاتيني ومقاهيه وساحاته وحدائقه، وكان بسام الأكثر صمتاً بيننا، ينجز عمله في النهار ويبعث بمادته الثقافية الى الصحيفة، التي كانت (النهار) في تلك الفترة… وفي المساء يحتوينا ليل المدينة الكبيرة الجميلة..
فترة على هذه الحال، حتى جاء ذات يوم ليقول إنه راجع الى لبنان، وأن الإقامة في باريس من غير عمل منتظم صعبة جداً..
رجع بسام رغم الحرب والخراب، وفي مدينته الجنوبية غرق في الكتابة والترجمة، وكأنما العمل والاشتغال الابداعي والروحي الأقصى هو البلسم والدواء في ليل الكارثة الزاحف..
ظل بسام ينتج بوتيرة سريعة كمن يسابق الزمن والحرب والموت، تصدى لأعتى الكتب الأدبية والفلسفية والشعرية، لأجمل الآثار والنصوص ولم تفته كتب بوليسيه عذبه ذات بعد سيكولوجي غير سطحي مثل كتب جورج سيمنون..
وقد ترجم لهذا الكاتب الشعبي لمجلة نزوى نصاً عميقاً يختلف عن كتبه الشهيرة تلك، هو رسالته الطويلة الى أخته الى تركه موتها فريسة تمزق كبير…
وفي خضم الترجمة الكثيفة التي تجاوزت الستين كتاباً، كانت ابداعاته الشخصية نثراً وشعراً إن صحت العبارة، لها حضورها الفريد والمؤثر في الشعرية العربية..
كان بسام حجار بصمته وتواضعه، تواضع المدعين الذين ارتطموا باكراً بشراسة الموت الزاحف والعدَم، كان فريداً ونوعياً في محيط الثقافة العربية ابداعاً وسلوكاً…
كان ذلك الارتطام الباكر والجرح الوجودي الأصيل، هو ثيمة كتابته ولُحمة وجودها المتشعب التجريبي الواعي…
كان الموت الشخصي والعام إن صحت هذه الثنائية أيضاً هو معين مادته الممزقة أيما تمزق، المشحونة بالشفافية والمعنى… كان الغياب والفراغ المحتدم واللانهائي.. في الكثير من نصوصه الشعرية، كان يتحدث بلسان الموتى، كان يتحدث كشخص ليس من هذا العالم الذي نعيش. الخطاب الشعري يتقمصه الميت الذي يريد أن يفصح عن بضع كلمات قبل أن يختفي في زحام عالم الأموات وشخيره وكوابيسه. كان يريد أن يختلس بضع ثوان أو لحظات من حياة آفلة لا محالة ومنقضية..
كان هذا الاحساس التدميري الحاد بالفناء والزوال، هو محرك تلك التجربة الشعرية ودفقها الحيوي المدهش الذي كتبت بصمت واحد من أهم فصول الشعرية العربية وغير العربية..
سلام عليك يا بسام ربما ستجد في عزلتك الجديدة مستقراً أفضل من بقية عزلاتك وأراضيك التي خبرتها، حتى اليأس والرحيل.
غرام علوية صبح
في روايتها (اسمه الغرام) تواصل اللبنانية علوية صبح سيرتها الروائية..
سيرة المدينة والمجتمع، التي بدأتها في (مريم الحكايا) بتعميق في الأسلوب وتعدد بزوايا الرؤية والحكاية في الواقع والتخييل.. في سياق الرواية تتوارد الحكايات والشخوص في مرآة المأساة والخراب، مأساة الحرب الأهلية وغير الأهلية، وما بعدها، وحتى حرب تموز..
نهلة. سعاد، اللتان يصعب الفصل بينهما، كما يصعب الفصل بين الرواية وظلها.. هاني. سليم..
تخوض الشخصيات مصائرها وسط أمواج السرد المتدفق والحطام.
مصائر رسمتها لنفسها وأخرى تنتظرها كفخاخ قدرية لا فكاك من الوقوع في براثنها وهي تمضي نحو الاختفاء والموت..
رواية تقول الفاجعة الإنسانية في أقصى تجلياتها رعباً وتفككاً، حباً وقيماً تتوارى دائماً خلف حُجب العنف الشامل والمستشري على كافة جبهات الحياة.
يحتل الجموح الشعري في عبارة صبح الروائية، حيزات مختلفة من الفضاء كنزعة أصيلة في مسار السرد، وهو موجود في الثنايا والتضاعيف، في قلب المشهد الفاجعي، شعرية الخراب إن صح التعبير، لكن هذه الشعرية تحتل مقاطع أكثر من غيرها، وكأنها قصائد نثر مكثفة وعميقة.
فإذا كان ثمة مقاطع في (دنيا) تجسّد بعمق هذه النزعة والجموح مثل مقطع (الأصوات) الصوت البشري أين يذهب؟
ويتلاشى، صوت الحضور والغياب صوت الأحياء وأولئك الذين طواهم الموت تحت خياله البعيد، الحب والكراهية… تلامسه الروائية، وتذهب به الى تخوم شعرية ميتافيزيقية فريدة الصوت، ذلك الكيان الأثيري مستقلاً عن جسده ومصدره وقد استحال الى ذكرى وعدم حارق.
(في اسمه الغرام) هناك مثل هذه المقاطع كمقطع الرضاعة، لحظة رضاعة الأم للطفل. تستل علوية صبح هذه اللحظة الأمومية الحانية من عاديتها، لتدخل بها عبر التأمل وسبر أغوار المشاعر الخبيئة، تُحوّلها الى لحظة فريدة في الزمان البشري. لحظة التصاق فم الوليد الغض المرتجف وهو يدخل دنيا البشر، حيث سيكون لاحقاً فرداً في هذا النسيج القاسي والمعقد، فم الوليد وهو يلامس الثدي ويمتص رحيق الأمومة في غيبوبة الدّعة الطفولية ورفاهها قبل عبور الزمن وانقلاب الأحوال، تلك اللحظة التي كأنما هي التمرين البدئي على أحلام جنة مستحيلة…
في مثل هكذا مقاطع ولحظات تتجلى قدرة الكتابة، كما تتجلى في إبداع الفضاء الروائي بأدواته ومفرداته المختلفة، في إبداع تلك المشاهد الجنسية التي تحدث عنها البعض سلباً، وهي ليست إلا جزءاً عضوياً من نسيج هذه الدراما وهذا الخراب الضارب أطنابه في كل الأماكن والنفوس والتفاصيل.
العمى
في رواية (العمى) لـ(خوسية ساراماجو) التي تعالج وتستقصي عالماً تحل به كارثة العمى الجماعي، التي تباغته على حين غرة، تترنح الحياة بكاملها، تحت وقع انهياراتها وظلامها.. يعم العنف والفوضى، وتستحيل الحياة الى انقاض حياة وحطام.. يستقصي الروائي البرتغالي ويغوص عميقاً في تلك التخوم الكارثية، التي حلت بالعباد والبلاد عبر هذا المرض الذي بدأ عضوياً عبر فقدان البصر، ليمتد الى الروح ويستشري في كامل الخلايا والحيوات.
في هذا المنعطف الوجودي الاجتماعي الصعب، تتفجر الدوافع والاسئلة الدفينة للشخصيات التي تعج بها الرواية، وتتعرى تحت الضوء الكاشف لمبضع الاستبطان الروائي.
كارثة العمى الجماعي في رواية ساراماجو، تبدأ من فرد يسوق سيارته عبر الطريق العام، ويتوقف أمام اشارة المرور الحمراء.. وهو يحدق في الاشارة، فجأة يرى بصره الاعتيادي يتشظى الى كتل لونية يغرق في سديمها الأبيض وتبدأ الكارثة.
نتذكر هنا رواية (بورخيس) الارجنتيني، عن نفسه، وكيف فاجأه العمى العضوي وهو في المكتبة العام «كان ذلك مثل غسق صيفي» حيث فقد رؤية الألوان إلا شبهة اللون الأصفر، ما تبقى له من رؤية الموجودات الحسية والعالم، الذي راح يحدق فيه بعمق اكثر سعة ونفاذا عبر البصيرة والمتخيلة.
طبعاً رواية الاعمى، لدى ساراماجو، غيره عند بورخيس ومن على هذه الشاكلة، كواقعة مرض طبيعي، رغم حمولتها وابعادها الوجودية التي ترتبت عليها كاختبار صعب يحل بغتة على الكاتب والإنسان.
ساراماجو في روايته، التي بدأنا نقرأ عن تحويلها إلى فيلم سينمائي، تحمل أبعاد الرمز وحمولاته الدلالية المتشعبة، التي تنطلق من الفرد الى الجماعة، ومن المدينة الى العالم.. وعبر هذا المرض العضال الذي يتخبط العالم في حمأة قسوته البالغة، يفضح ويحلل ويحتج على القيم والمنظومات والسلوكيات التي وصلت اليها البشرية في هذا الطور من حياتها المديدة.
طريقة مجيء المرض في رواية (العمى) أغرت كثيرين بالمقارنة، برواية (البير كامو) (الطاعون) فهناك ايضاً يذهب الموظف او الطبيب في مدينة (وهران) الى عمله وإذا به يتعثر بفأر ميت.. لقد بدأ الطاعون.
طبيعة البداية والمرض المختبر، تغري بالمقارنة لكن الروايتين تفترقان في أمور جوهرية تتعلق بطبيعة السرد والرؤية والمناخ والشخصيات لا تسعها هذه العجالة.
إذ كانت رواية كامو، تعين وتسمي الأماكن والشخصيات، فرواية سارماجو لا تفصح عن ذلك.
شخصيات ومصائر تتخبط في إشراكها وسط عتمة المصائر والآفاق. وسط عمى البصائر ونضوب العواطف ووأد الاحلام والطفولات، إذ تستحيل الحياة الى حطام بشر وفيالق عميان يجرجرون اسمالهم في المتاهة.
ألا تذكر الرواية، بجانب بعدها الإنساني المشترك، بواقع العرب الكابوسي الراهن؟
——-
المستقبل