مؤسس تظاهرة «100 ألف شاعر من أجل التغيير»: مايكل روتنبرغ وضرورة التغيير بالشعر في عالمٍ لاشعريٍّ


عبد اللطيف الوراري


عندما نكون بصدد الحديث أو التفكير في الشعر الأمريكي الحديث يتبادر إلى أذهاننا، للتوّ، مثل هؤلاء الشعراء العظام الذين تجاوزت آثارهم الإبداعية رقعة بلدهم الأصلي لتشمل خريطة الشعر العالمي برمّته، وهم: والت ويتمان، إدغار آلان بو، أميلي ديكنسون، إزراباوند، ألن غينسبرغ، جاك كيرواك، ولورنس فرلينغيتي، آن ساكستون، تشارلز بوكوفسكي، ألن فيليب، لانغستون هيوز، سيلفيا بلاث تشارلز سيميك. 
ومن القمين أن نعترف بأثرهم الذي لا يمكن إنكاره على الشعر العربي الحديث، وفضلهم الطيّب على شعرائنا المُجدّدين، بمن فيهم بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، سعدي يوسف، فاضل العزاوي، سركون بولص، نورالدين الزويتني، خالد مطاوع، فادي جودة والحبيب الواعي تمثيلاً لا حصراً. وإن كُنّا نشكو، إلى اليوم، غياب ترجمات أو مختارات كافية ومتجدّدة عن الشعر الأمريكي الحديث والمعاصر تُنقل إلى العربية باستمرار.
رائد الشعر الأمريكي
يمكن القول إنّ الشعر الأمريكي، بفضل نشاط مبدعيه، ما فتئ ينحت حداثته الدائمة، ولا يكفّ عن تجديد أنساغ مُخيّلته الهائلة، والعمل على الدفع بها إلى أقصى ما تفكّر به قصيدة لغةً وبناءً وأسلوباً، وربطه بروح العصر وقضاياه في أزمنة الحرب والظلم والهمجية، إصغاءً والتزاماً. ولعلّ من جملة هؤلاء، بل أكثرهم تجديداً ومُفارقةً في آن، هو الشاعر مايكل روتنبرغ، الذي نشرت له دواوين وحظيت قصائده على نطاق واسع باهتمام مجلات أدبية عديدة. وعدا كونه شاعراً، فهو كاتب أغانٍ ورئيس تحرير مجلة «بيغ بريدج» وناشرها على الإنترنت.
وقد أتاح روتنبرغ للقارئ الأمريكي والأنغلوفوني المعاصر، عبر علاقاته الوطيدة مع دار نشر (بنغوين) الشهيرة، أن يطّلع على مجلدات مختارة من الشعر الأمريكي الحديث، نشرت خلال العقد الماضي، لكُتّابٍ أمريكيّين لعبوا دوراً حاسماً في صوغ مفهوم جديد للشعرية الأمريكية خلال منتصف القرن الماضي، ومن بين هؤلاء الشعراء نذكر: ألن فيليب، جوان كايغر، ميلتزر ديفيد وإدوارد دورن. وبموازاةٍ مع ذلك، عمل هذا الشاعر عبر مجلّته «بيغ بريدج» على تشجيع أصوات شعرية جديدة، ومن ثمّة ساهم في بثّ روح جديدة تتواصل والإرث الشعري الذي ينشد سبل التجديد في الشعر المعاصر. ولقد ساهمت هذه الخدمات التي أسداها للشعر الحديث في التعريف به مُحرّراً وناشراً للشعر وفنّاناُ ذا ذائقة خاصة، ومنشغلاً بالأسئلة التي يطرحها الفرد عن تجربته الشخصية في محاولتها لإعادة تأريخ وبناء السمات الأدائية في الشعر الأمريكي الجديد. وهو ما أشار إليه الناقد الأمريكي دايل سميث بقوله: «إنّ مايكل روتنبرغ ساهم في صياغة مشهد الشعر الأمريكي باعتباره مُحرّراً ومُدافعاً عن التجديد في الشعر الأمريكي».
قصة كلب
في ديوانه الأخير «حبس لأجلٍ غير مُسمّى: قصة كلب، ترجمه إلى العربية الحبيب الواعي، ويصدر قريبًا، هالني شعر هذا الرجل الذي يحتشد بعشرات الكلمات والملفوظات من كلّ فنّ وعلم، من الذرة إلى البكتيريا والطفيليات، مروراً بأسماء الدول والعواصم والمدن، والغابات، والنباتات، ومشاهير الأعلام، والفنون، والحيوانات، والنسب والرموز الرياضية، ومنتوجات الصناعة الجديدة التي تغرق المجتمع الاستهلاكي في أتونها، من خلال عين شعريّة لاقطة وساخرة ترصد في حركاتها المهمل في حياتنا اليومية وتفاصيلها المكتظّة والباردة في آن، والعابرة للآفاق والمحيطات:
«في حركة،/ دائماً في حركة/ المطر وإبر الصنوبر المنكسرة/ من ورائي/ عنكبوت على صخرة بجانب النافذة/ الصقر يعبر قمم الأشجار/ ثُمّ يذهب/ أتبع هذا/ أتبع ذاك/ زجاجة خضراء دبقة/ من خليج المكسيك/ تسافر عبر الولايات المتحدة/ في صندوق/ في شاحنة متحركة/ في طريقها إلى ساحل المحيط الهادئ/ أراضٍ على الرفّ/ بجانب الصور العائلية/ نسر ذهبي اللون/ يطفو على حجر كريستالي/ أخشاب طافية، مبخرة…».
وتجد كلّ هذه الدوالّ يُداخل بعضها بعضاً بكيفيّة تضع المعنى خارج كلّ حساب مُتوقّع في العملية الشعرية، وهو ما يجعل النصوص، داخل المجموعة، تنطوي على مفارقات بناء الدلالة، في علاقتها بأزمة تشيُّؤ الموضوعة، وانشطار الذات وتصدُّع فهمها للغيرية التي تعكسها بنى الملفوظ كيفما اتفق. لقد جعل روتنبرغ ذاته بمسافات واضحة ممّا ترصده، وحدّ من انفعالاتها، فبدا البعد العاطفي أو الغنائي في نصوص المجموعة شبه معدم، في مقابل الرفع من وتيرة السرد شبه المنطقي والميكانيكي الذي يتيح التهويل من تفاصيل صغيرة ومبتذلة حيناً، ومفكّكة ومبتورة حيناً آخر، في أتون اللعبة الإبداعية للخيال:
«الموت هو النتيجة النهائية .
العقل المسافر يواجه الهراء السامي الذي هو النقد الأدبي المبالغ فيه .
المنظرون الفرنسيين والأطباء الروس يضعون حملهم في أحواض السباحة بطريقة تقلل من صدمة انتقال السمك إلى البرّ.
دريدا. بارث .
التفكيكية .
التفاح الأخضر الصغير المطعم بكرمة الطماطم».
أو في قوله:
«الإنسانية تغيظني!
لنشكر الربّ….
في بعض الأحيان
تسير الأمور على ما يرام
ولكن هذا المنزل يحترق الآن»
لكن داخل هذا اللعب اللغوي والتسريد المملّ لأشياء تبدو تافهة وغير منطقية، ثمّة استراتيجية يتقصّدها الشاعر، وهي نقد العالم المعاصر بروح ثوريّة مُفارقة لا تهادن، فنجده يُبطّن شعره نقداً مفارقاً ولَوْذعيّاً للنظام الأمريكي، وهوى الرأسمالية المتوحشة، وقيم الاستهلاك الجماهيري، والنازيين الجدد في إسرائيل، ومواضعات العلاقات الدولية التي تكرّس الجهل والتبعية، والربيع العربي الذي تآمرت عليه قوى ثورية ورجعية في آن: 
«حبّ مجامل؟
كوندوليزا رايس وديك تشيني
يلعبان الغُمّيضة في غرفة نوم لينكولن»
وفي قوله:
«هذه ليست سنة مبشرة للطغاة
سماء نحاسية
تمتد فوق ميدان التحرير
هنا تأتي تلك الفكرة المدمرة
تلك العملة التي أرسلتها بعيدا 
على رقعة منفسحة
لتقرأها يا ميتكو
* * *
غيوم الغاز المسيل للدموع 
تحوم فوق ميدان التحرير
تعود مقيدة ومنفعلة
لاصطدامها بأرض خشنة 
كفانا من الاستعباد» 
التزام مضادّ 
لهذا يصحُّ أن نعتبر شعر مايكل روتنبرغ يندرج ضمن توجُّهٍ جديدٍ من التزام الشعر الأمريكي المعاصر، بحيث ينصب الاهتمام فيه على إبراز قيم إنسانية عادلة يتقاسمها مع الشعوب المضطهدة في معاناتها المريرة اليوم، في كلّ مكان. 
فإذا كان الديوان يطفح بمتواليات فانتازية وسوريالية لا يمكن أن نخطئها، فإنّ ذلك لا يفقدنا الشعور بأنّ شعر روتنبرغ يستمدّ قوّته وروحه من معاناة الإنسان وآلامه، ليس من أجل أن ينصب نفسه سرادق عزاء لمعزّين مفترضين ومُملّين، بل من أجل إيقاظ الوعي الأممي الذي طالما وقع تحت خدر الإيديولوجيّات المتطرفة، للتغيير والثورة. فالدّيوان، إذن، يمكن أن يُقرأ كقصيدة أو معلّقة طويلة تنبثق من تيار الوعي الكامن لدى الشاعر بضرورة التغيير، والأمل في التغيير، آجلاً أم عاجلاً.
لكن من المهمّ أن نلفت إلى أنّ روتنبرغ يصوغ جملته الشعرية الخاصة به: جملة بصريّة باروديّة ومحدودبة، من نتاج خبرته الشخصية، ووعيه الحدّي بالعالم المحسوس، وثقافته الفلسفية النافذة، ومقروئيته النابهة لأعمال والت ويتمان، وجيمس جويس، وألن غينسبرغ وغيره من شعراء جيل الإيقاع الاستثنائي. وداخل هذا كلّه، تتنوّع صيغ الجملة وطرق كتابتها التي تسترفدها من أساليب المونتاج والمونولوغ والتبئير والتفضئة، ومن ملفوظات الكتابة الاعترافية، وهو يصل القصائد بتقنيّات الكتابة عند شعراء ما بعد الحداثة. بإجمال، سيشكّل الديوان بعد ترجمته إلى العربية، فرصة سانحة للتعرُّف على الطرق الجديدة التي تنتهجها مخيّلة الشعر الأمريكي الجديد.
مئة ألف شاعر من أجل التغيير
عدا كونه شاعرًا وناشرًا للشعر وموسيقيًّا، فقد اقترن اسم مايكل روتنبرغ بحركة الشعر العالمي المعروفة بـ «100 ألف شاعر من أجل التغيير»، التي ذاع صيتها في أنحاء كثيرة من المعمورة، وتأسست بمبادرة فردية إذ لا تمولها أي جمعية أو مؤسسة رسمية. وجوابًا عن دواعي بروز الحركة، قال مايكل: «إنّها جاءت في سياق ردّ الاعتبار للشعر بعد خفوت صوت وتهميشه، وإحياء دور الشاعر الذي كان له في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين»، وضرب المثال بالشاعرين الأمريكي آلن غينسبرغ والفلسطيني محمود درويش اللذين كان لهما مثل هذا الدور الحقيقي الجدير بالإعجاب. 
وقد أخذت هذه الحركة الشعرية تتسع منذ انطلاقها في عام 2009، إلى أن وُصفت بأنها أكبر حدث في تاريخ الشعر. فاليوم يُنظّم تحت اسمها، في أواخر سبتمبر/أيلول من كل سنة، ما يقرب من ألف تظاهرة شعرية في أكثر من مئة دولة حول العالم، بحيث يتطوع منظمو هذا النشاط الثقافي لاستضافة هذا الحدث في مدنهم عبر فضاءات مختلفة (مدارس، جمعيات، مقاهٍ..)، وذلك بدعوتهم شعراء وفنانين معروفين ومغمورين يجمعهم الحب والمرح والحزن وحافز التغيير للقراءة وتبادل الرأي والخبرة.
المقاطع الشعرية من ترجمة الحبيب الواعي الذي نقل ديوان «حبس لأجل غير مسمى: قصة كلب» إلى العربية، ويتوقع أن يصدر عن دار نشر عربية.
________
*المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *