في حبّ الأثاث


*تغريد ابو شاور



خاص ( ثقافات )
بعد دراسة انثربولوجية للإنسان الماكث فيَّ من ثلاثين عام ، قررت أن أكمل بقية حياتي في حبّ الأثاث !
قطع الأثاث الخشبية على وجه الخصوص كشواهد على اكتمال الفرح ، كعلامات لبداية الخلق ، كوصفات ناجعة للحياة .
للتوافق الكيميائي بيني وببن قطع الأثاث المنصوبة في البيت ، أسباب خلّقتها العزلة ، و البحث عن الذات في المضامين الأساسية للحياة . 
في غرام الكراسي الخشبية المنجدة بالمخمل ، وقعت!
و بشالات أمي المطرزة بالفلّاحي، بقطبة تدعى ” عِرق الحية ” دللتها . بهذه اللمسة التي أداري بها شحوبي ، أتزين فأصير أكثر تفردا، وكراسيَّ أكثر بهاءً وقدرة على دبِّ الحياة في الحية التي أخذت تُسلِّيني كلما طنّت ذاكرتي، وتهيّج في عروقي الخاملة دم البلاد ، وتنفث في سم غربتي من جديد !
كثيرًا ما تقاطعت في الشبه مع الأريكة الممددة في وسط غرفة المعيشة ، في ألفتها و اتساع صدرها .
وتقلبت فوقها دون ضجرها، كما تتقلب أسرار الكثيرون في صدري دون ضجر مني.
تترك في جسدي رائحة بلوطها وأترك في حضنها هواجسي و تتقبل جنوني، كأن أعلِّق على الجدران المحيطة بها خطاياي الأولى .
على الحائط الأوسط أعلق أول نص لي في برواز من خشب الصندل وما أن أضغط على زر الكهرباء المجاور له حتى ينساب الضوء الأصفر على النص، فتتساقط حروفه على أصابع البيانو محدثة إيقاعاً سحريًا، يطغى على أصوات أحذية أبناء الجيران الرياضية ذات المسامير .
البيانو اللامع صار مسبحتي، بعد أن أهديت مسبحتي المصنوعة من خشب الزيتون لرجل درويش أحببته كثيرا ،لا زال يلبسها في يده؛ ليسبح في فراغات الوقت ، و يعدُّ عليها حبّ يباته.
كلما وصلت االساعة النكدية منتهاها، ارتجف كل الأثاث في البيت بما فيها التمثال البروزنزي المرتكز على ” زير الماء الفخاري” ، كما تهتز التفاحة البرونزية في يد رجل التمثال ، التي لونها صديق لي باللون الأخضر بعد أن تراهنا على الفرق بين ” ديمومة النابت ، والمستنبت”، و “مدة صلاحية الأصيل القليل، والحقير الوفير” !
تتدحرج تفاحته ، وينتهي بها الحال تحت طاولة المطبخ الكبير، في المطبخ أقف حائرة بتقسيم حبّي بين الملاعق الخشبية المعلقة أو المرطبانات الملونة ، أسند ظهري على الحائط فتدغدغني قلادة من البامية المنشفة ، فأطوق بها رأسي ،تخطر لي نساء الرومان ؛فأنزل عن كتفي كنزتي وأضيف إلى شعري عرقا من الريحان ، فتزداد بهجتي .
في صغري لم أتعلم الالوان من قوس قزح ، بل كانت الأسواق الشعبية معلمتي ، والبسطات التي نقلت جزءا من تصميمها لمطبخي ملهمتي ، وهريس البندورة أحد أسرار جمالي الفطرية ، أتناول من سلة مصنوعة من القش حبّات البندورة ،أقضم منها قضمة ، فتلطخ وجهي وفمي بأحمرها ، أتحرَّق من حموضة عصيرها ، ثم أدهن وجهي ويدي به ، أنظر لنفسي في ثلاجتي التسانلس ، تغريني زخرفة ضحكتي المنقوشة على وجهي كقطعة أرابيسك متقنة الصنع ، فأبتهج للمرأة المكتملة ،التي أعاد لها الأثاث حريتها وحريرها.
________
*كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *