*ممدوح فرّاج النابي
عن المجلس الأعلى للثقافة صدر كتاب الأديب الراحل فؤاد قنديل، عن الناقد المصري محمد مندور بعنوان «محمد مندور: شيخ النقاد»، الطبعة الثانية 2015، وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في حياة الأديب الراحل عن دار الحضارة بالقاهرة في عام 1994، وفي مقدمة الكتاب يشير صاحب روح محبات والمفتون، أن كتابة هذا الكتاب استغرقت عشرين عاما، بين التفكير في الكتابة عنه، وانتظار أن يقدم على هذه الخطوة واحد من تلاميذ أو أصدقاء الناقد، وحيث إنه لم يقدم أحد ممن عوّل عليهم إتمام المهمة قام بالاضطلاع بها بنفسه، بعدما وجد صورة الرّجل تطارده، وتلحّ عليه كتابتها.
سيرة مجمعة
توزّع الكتاب على أربعة أبواب ضمت فصولا متعدّدة، نذكرها تباعا: حياة الناقد، مندور ناقدا، مندور ناقد النقاد وأخيرا مندور المناضل الثوري والكاتب السياسي.
تناول الباب الأول حياة الناقد، وقد جعلها المؤلف أشبه بشجرة وارفة، تبدأ من الجذور وتنتهي بالثمار، مرورا بالسيقان، قاصدا الروافد الفكرية والسياسية، التي شكّلت عقلية مندور النقدية في ما بعد، دون أن ينسى مرحلة عصف الرياح التي مرّ بها في حياته، وفي هذا الباب يقدّم لنا المؤلف بانوراما واسعة، كسيرة مجمّعة عن حياة الناقد منذ مولده في عام 1907، في قرية كفر مندور التي كانت تسمى على اسم عائلته التابعة لمركز مينا القمح بمحافظة الشرقية، ودور الأسرة في حفظه للقرآن.
ويكشف الكاتب أن محمّد مندور لم تظهر مواهبه طوال دراسته الابتدائية في مدرسة الألفي التي ضاق ذرعا بها، بل ظلّ طالبا عاديا أو أقل في درجاته عن رفقائه، لكن بعد مرحلة الثانوية التي قضاها في مدرسة داخلية في طنطا، نشأت موهبته في الكتابة والتفكير ما لفت إليه الانتباه، وهو ما أرجعه إلى دور أستاذيه في الثانوية السباعي بيومي، ومحمد هاشم عطية، اللذين صارا أستاذين في دار العلوم في ما بعد.
ويعرّج المؤلف على مرحلة السيقان المتمثلة في الجامعة، ودراسة مندور للحقوق وإلى جانبها دراسة اللغة العربية كرغبة من الدكتور طه حسين الذي حفّزه على دراسة اللغة، وأيضا علم الاجتماع بفضل أستاذه الأجنبي في كلية الآداب، وبعد تخرجه من الآداب صار الأوّل على أقرانه، فأرسله طه حسين إلى فرنسا لاستكمال ليسانس الآداب من السوربون.
وفي فرنسا التي سافر إليها عام 1930، ينقل لنا الصدمة الحضارية التي واجهته بمجرد أن مشى في شوارعها، وقد عبّر مندور عن مشاهداته وأجواء هذه البعثة في كتب متعدّدة منها كتاب “معارك أدبية”، وأيضا “الميزان الجديد”. ومن باريس زار اليونان كتحقيق لرغبة داخلية راودته للبحث عن الأماكن التي ورد ذكرها في قراءاته عن التراث اليوناني. في رحلة أثقل نفسه بدراسات متعدّدة إلى جانب الآداب فدرس القانون والاقتصاد السياسيّ والتشريع المالي، كما أحاط بكافة التفاصيل عن باريس فكريّا وثقافيّا وفنيّا وسياسيّا وأيضا تاريخيّا.
عاد إلى مصر بعد اشتداد فتيل الأزمة السياسيّة، دون أن يكتب رسالة الدكتوراه التي ذهب من أجلها، وفضّل كتابتها وتقديمها للجامعة المصرية، وهو الأمر الذي أغضب طه حسين، وما إن تقدّم إلى كلية الآداب للتدريس فيها حتى رفضه طه حسين بحجة أنه لم يحصل على الدكتوراه، وقد تكرّر الأمر في كافة الأقسام التي كانت لا تحتاج إلى مزيد من أعضاء هيئة التدريس، إلى أن ساعده أحمد أمين وقد صار عميدا للكلية، وعندما فتح المعهد العالي للصحافة، درّس فيه مندور اللغة الفرنسية وآدابها، وكذلك الترجمة عنها.
في الباب الرابع يعود المؤلف بشيء من الإسهاب إلى ما ذكره في الباب الأول عن دور مندور النضالي والسياسي، الذي نشأ منذ رؤيته مقتل البيطار زعيم الحركة الوطنية في مينا القمح، يوم خروجه في مظاهرات ثورة 1919، كما كان للبعثة دورها في إشعال لهيب الثورة والحماسة الوطنية، خاصّة بعد اختلاطه بالسياسيين في فرنسا وتعرّفه على القوى السياسية بصفة عامة. وقد تجلّى دوره السياسيّ بعدما ترك الجامعة وامتهن الصحافة، وعضويته في حزب الوفد.
خديعة الواقعية
يظل مندور شيخا للنقاد على تعدّد الوظائف التي شغلها وبرع فيها، وهو الأمر الذي خصّص له المؤلف الباب الثاني، متناولا المراحل الثلاث النقدية التي مرّ بها بدءا من المنهج التأثري، وهو الذي كان نتاج حالة الإعجاب بنموذج النقد الفرنسي الذي يعمد إلى تحليل النصوص، وهو ما طبقه عمليّا في كتابه “نماذج بشرية”. وكان حريصا على تبسيط النظريات العامة خلال التطبيق. بل كان ينفر من المناهج القديمة التي تعتمد على النظرية وهو الأمر الذي أسهب بالحديث فيه في كتابه «الميزان الجديد».
أما المرحلة الثانية فتمثل تطورا ملحوظا في مسيرته النقدية، وهي المرحلة التي تلت خروجه من الجامعة وانهماكه في العمل السياسي والحزبي والصحفي، وقد اتسمت كتاباته فيها بالموضوعية محاولا تفسير استنتاجاته ودعمها بحجج عقلية، وإن كان في كلّ هذا يقدّر الدور الشخصي للذوق.
أما المرحلة الثالثة والتي شملت سنوات 1957 إلى وفاته 1965، فقد تبلور خلالها منهجه في تطبيقاته التي حلل بها أدب الشعراء القدامي والمحدثين كما ظهر في كتابه «الأدب ومذاهبه»، وهذا التطور دعا غالي شكري إلى أن يعقّب بأن الصّورة التاريخية لنظرية الأدب التي صاغها مندور، هي «الصورة المتكاملة الوحيدة في نقدنا الحديث».
وفي هذا الكتاب لا ينفي مندور تأثّر الأدب العربي بالآداب الغربية، إلا أنّه في ذات الوقت يقرّ بأن هذا التأثير لا ينفي ما تتميز به آدابنا من الأصالة، كما تنبّه إلى أن المفهوم التقليدي للأدب الذي تبناه العرب والذي لم يتبلور في تحديد فلسفي لهذا اللفظ، يعدّ مصدرا أساسيا من مصادر الجمود الذي لحق بالأدب العربي. ومن أهم ما جاء في هذا الكتاب هو تراجعه عمّا فهمه من مفهوم للواقعية بعد زيارته للعالم الاشتراكي، بعدما شاهد اضطرابات هذا العالم الذي كان يصدّر النظريات عن الواقعية.
ولكن أهم ما عدل عنه، هو دعوته إلى توافر القيم الجمالية في العمل الأدبي، وإن كان يشدّد على أن تحديد الهدف عنصر جوهري في كل تأليف أدبي، كما أن الهدف يتحكم في اختيار المصدر الذي يريد الأديب أن يستقي منه مادته، ليصل في نهاية مطافه إلى المرحلة الأيديولوجية، وإن كان في قراءته ليحيى حقي لم يتخلص من الذاتية.
________
المصدر: العرب