*مايا الحاج
مع «لغة السرّ» (2004)، أنهت الروائية اللبنانية نجوى بركات مشروعاً روائياً اتخذ من القسوة تيمة أثيرة له. هكذا جاءت روايات «يا سلام» و «باص الأوادم» و «لغة السرّ» أشبه بثلاثية عبّرت فيها بركات عن خوفها من خطر لا تعرف ماهيته، لكنه آتٍ لا محالة. وإزاء المشهد العربي الراهن، يُمكن القارئ أن يُعيد قراءة أعمال بركات من زاوية مختلفة ليجد أنّ ما قالته عن عنف الإنسان وقسوته يتحقّق اليوم بما يتجاوز حدود المخيلة. وبعد نحو عشرة أعوام على آخر رواياتها، ما زالت نجوى تسأل نفسها عمّا تريد أن تكتبه. لكنّ غيابها لم يكن يوماً انقطاعاً عن الكتابة، فهي أسّست في 2005 محترف نجوى بركات وأشرفت على ثلاث دورات أثمرت عن ثمانية عشر عملاً روائياً، آخرها دفعة تصدر قريباً عن المحترف بالتعاون مع برنامج آفاق. وفي موازاة ذلك، صدرت أخيراً الترجمة الفرنسية لروايتها «لغة السرّ» عن دار «أكت سود» واختيرت ضمن لائحة جائزة «فيمينا»، الفرنسية التي تُكرّم الأدب الأجنبي المترجم إلى الفرنسية. عن الكتابة وهمومها، والمحترف وتحدياته، والعالم العربي ومشكلاته، والإنسان وقضاياه. تحدثت نجوى بركات إلى «الحياة» فكان هذا الحوار:
> لنبدأ من اختيار روايتك ضمن لائحة «فيمينا» (فرع الأدب الأجنبي المترجم إلى الفرنسية). ماذا يعني لك هذا الترشيح لا سيّما أنها المرة الأولى التي تُرشح فيها أعمال عربية؟
– هذا الترشّح يُفرحني طبعاً، لكنّه في الوقت عينه يُشعرني بأنّ ثمة جوراً لطالما ارتُكب في حقّ الرواية العربية التي تستحق أن تكون حاضرة بين الروايات العالمية المترجمة في المحافل والجوائز الكبرى.
من يقرأ رواية «لغة السرّ» بالعربية يظنّ أنّ ترجمتها الى لغة أجنبية قد تُفقدها كثيراً من قوتها وجماليتها لما فيها من اشتغال على اللغة نفسها. فكيف قابلت الترجمة الفرنسية للرواية؟
– هذا ليس أول عمل لي يُترجم إلى الفرنسية، ولكن سأجيبك بصراحة، وإن كنت لا أريد أن أقلّل من شأن المترجمين الآخرين. كنت أعاني كلّما واجهتُ نصي بلغة أخرى. ولأنني أملك اللغة الفرنسية، كنت أقرأ الترجمة وأشعر بأنني غريبة عن نصي. كأنّ الفرنسية تسرق شيئاً من روح العمل بلغته الأصلية، الفجاجة التي اتسمّت بها رواية «يا سلام» مثلاً تهذبّت وتلطفّت بالفرنسية.
ولكن مع «لغة السرّ» اختلف الأمر. كنت بداية متشائمة لعلمي بصعوبة ترجمة هذا العمل تحديداً، لكنّ الناشر فاروق مردم بك كان له خيار استثنائي حين قرر عرضها على المترجم فيليب فيغرو، وأخبرني حينها أنّه يتمنى موافقته على اعتبار أنّ فيغرو لا يترجم إلاّ وفق مزاجه الشخصي. وبعد ترجمته للرواية قرأتها فشعرتُ بجمود تام من الصفحات الثلاث الأولى. تملكني إحساس بالإمتننان الكبير لمترجمٍ أدهشني بقدرته على أن يجد المعادل التعبيري الفرنسي لما اشتغلت عليه بالعربية. إنه فنان وليس مترجماً. وهذه مناسبة جديدة لأشكره على براعته في ترجمة كتاب لصيق بمشاكل اللغة وتعقيداتها مثل «لغة السرّ».
حين نستعيد «لغة السرّ» التي تقوم على تقابل بين فكرتي العلم والوهم المتمثلة بنزاع «الشيخ الأكبر» و «الورّاق»، نشعر بأنّك استمددت أحداثها من الواقع العربي الراهن، بيد أنّ الرواية صادرة قبل أكثر من عشرة أعوام. هل يُمكن وصف «لغة السرّ» بأنها رواية تنبوئية؟
– كثيرون يلفتونني إلى هذه المسألة. أحياناً تكتبين وأنت تلاحقين حدساً ما، أمراً تستشعرينه من مراقبتك لما حولك، وتسعين عبر الكتابة إلى القبض عليه. الروايات التي كتبتها من «باص الأوادم» إلى «يا سلام» ثم «لغة السر» تطرح تيمة واحدة، هي العنف متجاوزاً نفسه ليبلغ درجات هائلة من القسوة. كنت أظن أن هاجسي هو العنف، اليوم أرى أنها بالأحرى القسوة. Cruaute. لا أعرف إن كانت القسوة تعطي المعنى ذاته. هل سبب اندفاعي نحو هذه التيمة بالذات هو الحرب الأهلية؟ ليس فقط، إذ تكشّف الواقع في العالم العربي عمّا كنت أستشعره، لا بعقلي، وإنما بحدسي الروائي.
لكنّ تأثير الحرب الأهلية كان جلياً في أعمالك ولا سيما في رواية «يا سلام». ألا تعتقدين أنّ حرب لبنان كشفت أمامك عنف الإنسان ووحشيته قبل المشهد العربي اليوم؟ يهمني أن أعرف قصدك بالتفريق بين تيمتي القسوة والعنف؟
– كنت أقول إنّ الحرب اللبنانية كشفت أمامنا حقائق أخرى ودفعتنا الى طرح تساؤلات حول الطبيعة البشرية والعنف ومعاني الخير والشر، وهي أسئلة عادية طرحها الكتّاب في كلّ الأزمنة حين عاينوا حقائق هزّت صورة الطبيعة الإنسانية في نظرهم. لكنني كنت أشعر بأنّ ما أقوله ليس مبرراً كافياً لاندفاعي الخفيّ نحو هذه الموضوعات وأنّ الأمر لا بدّ أنه متعلّق بشي آخر لا أدركه. في «يا سلام» حكيت عن واقع الحرب الأهلية اللبنانية، ولكن في «باص الأوادم» و «لغة السرّ» تجاوزت الهوية اللبنانية وخصوصيتها لأحكي عن هوية عربية مهترئة، مهتزة، غير ثابتة. في أعمالي جغرافيا سردية عربية، بمعنى أن الأحداث لا ترتبط بمكان يحمل اسماً محدداً، وهي مع هذا تحيل بواقعية إلى العالم العربي. اليوم صرت أدرك مع مفعول رجعي أنّ انشدادي صوب هذه الموضوعات كان نابعاً من إحساس داخلي بأنّ ثمة خطراً آتياً لا محالة. كأنّ هناك ناراً خامدة تحت الرماد ويكفيها نسمة هواء كي تشتعل. أنا لا أفسر هذا الكلام إلا رجعياً. الحالة هذه يصحّ تشبيهها بما يحصل مع الحيوان الذي يشعر غريزياً بأنّ ثمة زلزالاً سيضرب مكاناً ما فتصيبه مُسبقاً حالة من الهلع والتوتر. أمّا عن الشق الثاني من السؤال، فأرى أنّ العنف ملازم للطبيعة البشرية، لكنّ السؤال هو كيف نقوننه. حين يتخلّص العنف من كلّ مبرراته، يتحوّل إلى «قسوة».
> يبدو أنّ المشهد العربي الملتهب منذ خمس سنوات كشف للقارئ أبعاداً أخرى في أعمالك، فحكى بعضهم عن رمزية الرأس المقطوع في «باص الأوادم» (1996) كاستباق لأفعال «داعش»، بينما استذكر آخرون نصّ «الجزذان» الشهير أثناء أزمة النفايات الأخيرة في لبنان. بماذا يُشعرك ذلك؟
– هذا شيء لا يُفرحني، إنما يُبكيني. فإذا كانت الرواية تسمح لك أن تمضي في اللاأخلاقي حتى النهاية، فهي تفعل لكي تقول شيئاً أخلاقياً في النهاية. إلا أن الواقع ذهب في اللاأخلاقي حتى النهاية ليُكرّس شيئاً لا أخلاقياً. مع هذه الرواية شعرت بأنني أكملت جزءاً من مشروعي الخاص. انتهيت من الكتابة عن تيمة تؤرقني. اليوم، أنا أبحث عن موضوعة تسحبني نحو الكتابة من جديد.
> هل هذا يبرّر توقفك عن الكتابة لفترة تزيد على عقد؟
– مضى وقت غير قليل على صدور آخر رواياتي وما زالت الأسئلة تحاصرني عمّا سيصبح عليه مشروعي الروائي. لقد أنجزت محطة، ولم أقع بعد على ما ستكون عليه محطتي التالية. ثم أن هناك إحساساً ذاتياً وعميقاً، غير مرتبط بالضرورة بالمشهد الثقافي الحالي، بما يشبه النفور، النفسي والجسدي على السواء. نفور من الكلام، من اللغة، من الكتابة، من هيمنة اللامعنى وتصريفه بكل الأزمنة والأشكال. لا أظن أن الكتابة يمكن أن تتحقق من دون وجود معنى ما للأشياء. أو أنها ربما ما يخلق المعنى، لكنها تحتاج وقتاً لتعيد تشكيل صفوفها لتواجه كل هذا الخراب.
> خلال فترة توقفك عن الكتابة أنجزت مشروعاً عربياً طليعياً يتمثّل بـ «محترف نجوى بركات» الذي صدرت عنه ثماني عشرة رواية. هل يمكن القول إنّك حاولت خلال تلك الفترة معاودة الكتابة من مقاربة أخرى؟
– هذا صحيح، أنا أشعر بأنني مستمرّة في معايشة عملية الكتابة من خلال المحترف.
> ولكن حين تقولين إنّ الأشياء فقدت معانيها فأيّ معنى يبقى لمشروع وُصف بالمُغامر حيناً والجنوني أحياناً؟
– أسباب وجود المحترف كثيرة ألخصها أولاً برغبة داخلية في تأجيل مشروعي الشخصي، ومقاربة الكتابة من زاوية أخرى. ثانياً أنني مؤمنة بأنّ الرواية فن له أصول وقواعد تعلمنا إياها عملية الكتابة نفسها. ثالثاً أنا أراقب بجدية حركة الكتابة والنشر وقد لاحظت أخيراً أنّ واقعنا الثقافي أشبه بسفينة استولى عليها قرصان وفرض فوضاه من غير أن يشير أحد إلى أنّ ما فعله ليس صواباً. رابعاً، نحن شعوب غير مثقفة، وأعرف بالتجربة أن ثمة مواهب إذا لم تجد من يشجعها ويحتضنها ويعطيها من قلبه ووقته فإنها لن تكون موجودة أبداً. وأنا أحببت أن أتواصل مع هذه الطاقات، أوجهها وأساندها خصوصاً أنّ لديّ مقدرة على نقل الكتّاب إلى مطبخ الكتابة، وهذا أمر لا يتعلق بموهبة الكاتب وإنما في قدرته العقلانية على «عقلنة» شيء غير عقلاني. فكل من يكتب يعرف أن الكتابة هي التواجد على تخوم الوعي واللاوعي. المحترف هو محاولة عقلنة هذه المعادلة ونقلها إلى كاتب لا يمتلكها حقاً. من هنا أجدها تجربة استثنائية في حياتي.
> ما هو مكسبك حين تصدر عن محترفك 18 رواية ما بين 2009 و 2015؟
– هو مكسب يتجاوزني كشخص. أنا أشعر نوعاً ما بفائدة إضافية لي ككاتبة. المحترف يشعرني بأني فاعلة، صاحبة تأثير حقيقي. أنا أعمل مع الكتّاب كأننا نَفس واحدة، نحن نتقارب حتى تختلط أفكارنا و «أمعاؤنا»، كي تنجز الرواية. ولكن في الوقت نفسه، مقابل هذا الزهو، إنه عمل جاحد يتطلب منك تحجيم «أناك» كمبدع، لا بل إلغاءها حتى لمصلحة كاتب شاب تعطيه من وقتك وخبرتك وروحك كي ينجز عملاً يوقّع باسمه هو، من دونك. ومع ذلك، لا أعرف من أين لي كل هذا الاكتفاء؟ ربما لعلمي بأنّ ثمة جيلاً من الروائيين يتخرّج من محترفي، وهو في الأصل هدفي.لا أقول إنّ جميعهم سيستمرّون، ولكن ألن يبقى منهم أربعة أو خمسة روائيين جيدين؟ ما يربطني بكتّاب المحترف ليس علاقة شخصية لا أصرّ عليها، بل الرغبة بتوسيع المشهد الأدبي. أيّ شيء يساوي فرحتي حين تكتب الصحف أن رواية هدى حمد مثلاً أحدثت نقلة نوعية في الرواية الخليجية؟ أو حين تفوز منيرة سوار بجائزة «كتارا» وتقف بجانب كتّاب معروفين؟ أو حين يُقال إنّ رواية إياد البرغوتي تؤرّخ لأسلوب جديد في الرواية الفلسطينية؟ أيّ شيء يساوي إحساس الكاتب بأنه يرمي حجراً في المستنقع وينجح في أن يحرّك المياه الراكدة فيه؟
> أنجزت أخيراً الدورة الثالثة من محترفك مع «آفاق» إلاّ ان الروايات لم تصدر حتى الآن. لماذا؟
– تأخر صدور الروايات بسبب خلاف مع الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) سُوّي أخيراً، وأدى إلى انفصالي عنهم، إذ كان من المقرّر أن يستمرّ التعاون مع المؤسسة على مدى ثلاث سنوات. للأسف، بعض المؤسسات الثقافية حين تمنح التمويل، تعتبر أنها ملكت الفكرة والجهد والنتيجة، وأن من حقها بكل بساطة أن تنسبها إليها. هي لا تحترم ولا تعترف بجهود الفرد، لذا فقد انتفى معنى الشراكة، وهذا كان سبب الخلاف. المهم أولاً وأخيراً هو أن هناك سبعة أعمال لكتّاب عرب شباب، أنجزت رواياتهم في إطار محترف نجوى بركات، وستصدر قبل نهاية العام.
_______
*المصدر: الحياة