أفول المثقف الفرنسي؟


رلى راشد


تكاثر الحديث الإعلامي في الآونة الأخيرة عن دور المثقف الفرنسي ومكانته وتأثيره.
ليس تناول مرتبة المثقف في بلاد سارتر وكامو ومن طريقها ألق الثقافة الفرنسيّة وإشراقها أمرا مُستجدا تماما، ذلك أن الأعوام اليسيرة الماضية أتتنا بمثال شديد الإفصاح، من طريق غلاف أحد أعداد مجلة “تايم” الأميركية في نسختها الأوروبية في 2008 والذي خصص لما سمّي آنذاك “موت الثقافة الفرنسية”.
بيد ان الإستنتاج المستفزّ جاء يومذاك كأنه خارجٌ على السياق وهو عُدّ في أكثر من معنى نسقاً من المحاكمة المارقة والمنطوية على تجنّ. ولم يتردّد البعض في مقاربته جزءا من رغبة انغلوساكسونية مبيّتة لخلخلة “الخاصيّة الفرنسية” ومحاولة مشبوهة لسرقة جذوة نار الثقافة الفرنسية وتنويرها والدفع بها جغرافيا، إلى ما بَعد المحيط الأطلسي.
يومذاك أحدث المقال المستعجل في طرحه وفي استنتاجاته، ضجيجا بطبيعة الحال، غير ان تأثيره بقي في حدوده الدنيا، لأنه حثّ المثقفين الفرنسيين، على التكتل ضمن جبهة متراصة إلى حدّ بعيد إزاء ما جرت معاينته إفتراء كاملاً. أما قنص الروائي الفرنسي باتريك موديانو لجائزة “نوبل” الآداب بعد فترة قصيرة، في 2014، فجعل هذه المحاكمة للثقافة الفرنسيّة تتراءى مفتعلة بل وقضية خاسرة.
بيد أن الجدال الراهن في شؤون الثقافة الفرنسية وشجونها يتراءى كالموجة الأولى في محيط مفتوح على الرياح العاتية. لا يبدو الطرح منبثقا من خواء، في الأقل إذا أفدنا من تحليل مجلة “لو ماغازين ليتيرير” المتمهّلة عند شقاق يقوم اليوم بين “الفِكر الواحد” ضد “الرجعيين” من جهة، وبين “النُخب” ضد “الشعبويّة” من جهة ثانية. 
هذه الأنساق من الإنقسامات تقول المجلة ظهرت إلى العلن بعدما باتت الحدود بين اليسار واليمين على المستوى السياسي، مبهمة. لتشير المجلة أيضا إلى أن إرث التنوير وتأويلاته المتضاربة فضلا عن إمكان نبذه حتى، باتت مسائل قابلة للطرح.
في دورها قدّمت إذاعة “فرانس كولتور” مَسحاً شديد التشاؤم للمسألة الثقافية الفرنسية في زمننا. عمدت إلى فتح أثيرها للصحافي والكاتب الفرنسي بريس كوتوريي مُنظّرا في “انقراض المثقف الفرنسي”، وهو لم يتأخر في تفنيد أسباب هذا الإنسحاب، ليعزوه بداية إلى تراجع العقائد الواضح وتحوّل السياسة إلى موضوع يتولاّه الإداريون، وليشير ثانيا، إلى تدهور الإنتاج الثقافي في فرنسا ذلك ان “إريك زيمور ليس بول فاليري، ناهيك بأن ميشال أونفري ليس ألبير كامو”. أما السبب الثالث للأفول الثقافي وفق كوتوريي فما يسمّيها “الإقليمية” أي الجهل التام تقريبا، لكل النقاشات العميقة التي تجري في بلدان تعصف بها روح حداثة جديدة، كمثل الصين والهند وباكستان حتى”.
من اللافت أن يتّخذ كوتوريي من الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري مثالاً لإثبات تقهقر الثقافة الفرنسية في حين يشغل أونفري مساحة لا يستهان بها في المشهد الثقافي الفرنسي ومنذ أعوام عدة إلى جانب “الفيلسوف الآخر” برنار هنري ليفي، يوجه أحدهما السهام ضد الآخر، بين الفينة والفينة. والحال أن مصير الطفل السوري اللاجىء ايلان بات الحلقة الأخيرة في الكباش بينهما، فبعدما أبدى برنارد هنري ليفي تعاطفه إزاء ما جرى، لم يلبث أن هزأ أونفري من موقفه سائلا “ألا يخجل؟ يستحسن به أن يختبىء”.
يبدو خصام هنري ليفي-اونفري في جوانب كثيرة صراع كبرياء، صراع “ايغو”، ربما لأنهما متماثلان الى حد بعيد.
تشير “فرانس كولتور” إلى حضور طاغ لمثقفي الراهن إعلاميا في حين تسأل في المقابل “هل لا يزال للمثقف الفرنسي أي سلطة اليوم؟”.
نسأل في دورنا، هل لا يزال للمثقفين في المطلق، وعلى اختلاف جنسياتهم أي سلطة اليوم؟
الجواب في مآل هذا العالم.
——-
النهار

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *