سميحة خريس*
أشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى من حياتي المديدة أني أقف وحدي، لا يزعجني هذا الأمر بقدر ما يطمأنني “على سلامتي الشخصية” لكثرة ما أشهد حولي من تشظي المثقفين، فمنذ بدايات الوعي لدي، “والتي لا أدعي أنها اكتملت” اخترت أن أكون على شيء من الحرية في اختياراتي خاصة تلك التي تتعلق بوجهة النظر حول السياسة والدين والأخلاق، ولم يضربني وهم المثقفين بأنهم فوق الجميع قادرين على تغيير العالم، ولو أني حلمت مراراً بتغيير هذا العالم الثقيل القاسي.
يفيدني اليوم الوقوف في موقف المتفحص لما يدور حولي، وقد اتضح لي ما كنت أتوجس منه دائماً بأن ابتعاد المفكر أو المثقف عن السلطة غنيمة له وخسارة للسلطة، وأن اقترابه معادلة موجعة تصادر منه روحه فهو قادر على تقديم قاموسه الهائل المقنع في خدمة السلطة بينما هي قادرة على تهميش أفكاره وتحييدها في أحسن الأحوال لصالحها، قلة لا أكاد أعرفهم تركوا أثراً في السلطة، وقلة تمكنوا بالمقابل من الانخراط في الناس ليصنعوا ثورة، ولنا في الثورات العربية مثالاً، فقد استيقظ المثقفون من قنوتهم ويأسهم وتباكيهم على الأحلام التي ضاعت ليجدوا أن الأرض اشتعلت والجماهير خرجت إلى الشوارع، حاول المثقفون اللحاق بالقافلة المسرعة ومعهم حاول السلفيون والليبيراليون والمنتفعون والصالحون والصادقون، أطراف كثيرة كانت تحاول ايجاد موقع لها في خضم الصراع.
لم يصنع المثقفون الثورات بل أن بعضهم من صفوتهم وأكثرهم انتشاراً وفكرا حراً صرح بأنه فوجئ بها تماماً، لم يتجاوز دور المثقف قبل الثورة إلا حدوس بسيطة متناثرة ما بين قصيدة ورواية ولوحة وبيان، ولعلهم انتبهوا إلى أن هامشية دورهم خطرة جداً خاصة أن القوى العكسية تمكنت من حجز موقعها بقوة نظراً للفراغ الذي تركه المفكرون في مجتمعاتهم، يحاولون اليوم لعب دور تنويري، وهذا ما لا بأس به، لولا أني أرى أنهم باتوا في العراء، المثقف العربي اليوم واقف في مهب الريح، لا يستطيع الارتداد للأفكار العظيمة التي اعتنقها في تاريخه وفشلت في التطبيق، ولا يرتضى الانضمام للزمر المريبة التي تتكاثر حوله، ولا يسمح لجسده المتعب الواهن بالوقوع في الخنادق المتناحرة، ” البعض يفعل” لهذا تكثر المناحرات والاتهامات ونتقاذف بالتخوين وبازدراء أراء بعضنا بعضاً، نفشل في تطوير لغة الحوار التي طالما تغنينا بها.
إلا أن الأساس أن المثقف يعتنق الفكر الانساني الذي لن يتغير، ولأن المثقفون جزر شتى متباعدة ولا ملامح تجمعهم فإن تأثيرهم سيظل محدوداً حتى اشعار أخر.
في مقال للباحثة رزان ابراهيم اشارت إلى تصنيف وضعه المفكر العربي هشام شرابي حين فرق بين الذين يمتلكون وعياً اجتماعياً خلو من دور اجتماعي يؤازره، وأخرون يمتلكون دوراً اجتماعياً خلو من وعي اجتماعي. يشبه هذا حال المثقف والسياسي.
أعتقد أن تلك الظاهرة تعمقت خاصة بعد فشل النخب في ايجاد بوصلة انسانية لها، وبعد تفتتها حتى داخل الجسد الواحد، الحزب أو المؤسسة أو التنظيم. مما أدى إلى كفر العامة تماماً بتلك النخب إن صح التعبير بعد أن كانت تشكك بها فقط.
تتغير الثوابت، وهو أمر غير مرفوض بل لعله مطلوب لذاته، وفي رهاننا أن هذا التغير يقود حتماً إلى استمرار مسيرة الحياة والابتعاد عن التحنيط المضر بالانجاز البشري، لهذا نتفهم ونطالب أن يكون المثقفون أول من يتبنى المتغيرات ويناضل في سبيلها، وقد يدفع فاتورة صعبة من الخسارات المتنوعة، لكنه يدرك أن درب الحق والحرية والتغيير إلى الأفضل لا بد أن يكون صعباً حافلاً بالأشواك مع ذلك نجد أنفسنا في منعطفات لا تسير إلى الأمام، ولكنها قد ترتد إلى الخلف بقسوة وعنجهية ساحبة وراءها رتلاً من “المثقفين”، وأضع كلمة مثقفين بين قوسين لدراسة إمكانية ارتداد المثقف الحقيقي عن موقف في صالح الارتقاء بالحياة، وأدرك أن الاتفاق على الثوابت أمر سلبي، لكن الاتفاق على الوسائل الأخلاقية هو الدرب الحقيقي الوحيد لتحقيق الأفضل، وهذا ما يفجعنا اليوم في تحول نخبة من المثقفين إلى كائنات تنفذ مخططات واضحة المعالم لا تحتاج إلى نقاش تسلم فيها حاضرنا ومستقبلنا إلى ضياع ومجهول، لقاء ازدهار وقتي وذاتي لفئة قليلة في حين يصادر مستقبل أمة وارادتها.
كشطت المتغيرات جلود وأقنعة نفر من المثقفين الذين في كل واد يهيمون، ويتقلبون كما يميل الهوى، ويشاركون في الرهان على الحصان الفائز في لحظة تاريخية، ثم يبيعونه للسيرك في لحظة أخرى مناقضة؟
يجدر بنا اليوم أن نتأمل في انهيار الصرح الأخلاقي للتعامل بداية لدى “نخبة” المثقفين والذين يمثلون عينة عن مجتمع نرجو أن لا يكون السوس قد نخر أساسه، حتى يكون دائماً لدينا نافذة للحلم الكريم، ودرب إلى المستقبل.
يخيفني للغاية ما كتبه تشيخوف في رسالة له حين قال: ليس الحاكم وحده مذنباً، إنما الصفوة المثقفة بأثرها، وأنا لا أؤمن بالصفوة المثقفة، المنافقة، الكاذبة، المهووسة، قليلة الأدب، الكسولة، إنني أثق فقط في أشخاص بعينهم.
* روائية وإعلامية من الأردن