بطالة المثقف


*خيري منصور

لدينا العديد من المفاهيم التي أصبحت بحاجة إلى إعادة تعريف، فالمعاجم الكلاسيكية لم تعد تفي بالغرض، ولو أخذنا مثالا واحدا هو الفقر، فإن تعريفه قبل قرن يصبح قاصرا الآن عن تحديد دلالاته، فالتطور شمله أيضا، لأن مساحة الحرمان تتسع بتناسب طردي مع ثقافة الاستهلاك، وقد يكون الآن فقيرا، أو يحسب نفسه كذلك من يمتلك بيتا لا يرقى إلى حلمه وسيارة قديمة يشعر بأنها عورة على شارات المرور أو هاتفا أقل ذكاء، فالاستهلاك الذي اختزل الكائن إلى بُعد واحد، كما يقول هربرت ماركيوز، غيّر من مفهوم الفقر وكذلك من مساحة الحاجة. وحين أتحدث عن بطالة المثقف، فذلك من منطلق مغاير لتعريفات عديدة وإن كان أبرزها قدر تعلقه بهذا السياق هو تعريف سارتر الذي جعل من المثقف مهنة تشمل كل ما دونها من صفات وتعريف غرامشي، خصوصا في ما يتعلق بما سماه المثقف العضوي، فالمثقفون لدى كل من سارتر وغرامشي ليسوا متجانسين أو من طبقة واحدة، فهم يعبرون عن الفئات التي ينتسبون اليها اجتماعيا بالدرجة الأولى وقبل أن تتبلور مواقفهم السياسية والاقتصادية. وأذكر أن سارتر عندما زار القاهرة لأول مرة قبل حرب حزيران/يونيو 1967 اعترض على من قدمه في المحاضرة التي خص بها الجامعة عن دور المثقف في القرن العشرين، وقال إنه ينوء بمفرده بحمل كل تلك الالقاب بدءا من الفيلسوف حتى المسرحي مرورا بالروائي، وقال بأنه يطمح إلى صفة واحدة هي صفة المثقف.

وبالفعل كانت رواية سيمون دي بوفوار التي حملت عنوان «المثقفون» بمثابة إعادة تعريف لهذه المهنة، فأبطال الرواية هم أبرز كتّاب فرنسا في تلك الآونة الخصبة التي شهدت سجالات واسعة بين الوجوديين والماركسيين والليبراليين.
بهذا المعنى لا يكون الكاتب مستغرقا في دوره التاريخي لمجرد أنه يصدر كتبا على اختلاف مجالاتها، فنحن جميعا نفعل ذلك وإن بدرجات متفاوتة لكننا نشعر بالبطالة، أي فقدان الفاعلية والتهميش لأننا نعيش في ما يشبه الجيتو، بمعزل عن حراكات إنسانية وهواجس وأسئلة لم تصل بعد حدّ المساءلات، وهنا استأذن القارئ العزيز لأروي له حكاية هي ما دفعني إلى استبدال مقال كنت قد شرعت في كتابته بهذا المقال، فبينما كنت أجمع أوراقي عن ظاهرة متعلقة بالشعرية العربية، بعد كل ما أصابها من الالتباسات، سمعت من إحدى الفضائيات العربية عن جريمة بالغة القسوة استخدمت فيها أداتان تكفيان لمعركة صغرى هما قنبلة يدوية وساطور، وانتهت الجريمة بمقتل رجل وبتر يد أخيه، وكان السبب الذي أحاول عبثا تصديقه حتى الآن هو انهما تأخرا في غسل قميص عن موعد التسليم، على الفور أحسست بقشعريرة البطالة تسري في أصابعي، وأدرت ظهري للمكتبة واستبعدت الأوراق الصغيرة التي كنت قد جمعت فيها ملاحظاتي، فما حدث لم أقرأ عنه في «بدائع الزهور» لابن أياس أو ابن الأثير أو الجبرتي، لقد حدث ذلك في مكان كنت أمر منه بشكل يومي في عاصمة عربية، لكن لم يخطر ببالي وأنا اتأبط كتبي أو أحمل مقالة للنشر أن الإنسان في المجتمع الذي أعيش فيه وأكتب بلغته ليقرأني لا أعرفه على الإطلاق وإن ما جرى في عالمي تفاقم خارج قدرتي على الرّصد، وكأنني في زمن آخر ومكان آخر .
جريمة قتل بهذا العنف والسادية كان سببها، كما يقول النبأ، تأخر غسل قميص، والإعلام الفضائي في سباقه الماراثوني لنقل ما يحدث بتسارع محموم لا وقت لديه كي يبحث ما وراء السبب التافه المعلن، وأعادني هذا النبأ إلى رواية «الغريب» لألبير كامو، حيث يقتل بطلها ميرسول واسمه مركّب من الشمس والبحر شابا عربيا على الشاطئ لمجرد أن الجو رطب والعرق يتصبب من جبهته على عينيه، فهل كان سبب القتل حبات من العرق، أم أن وراء الأكمة غابة، بحيث أخفت الشجرة تلك الغابة؟
يقول كامو نفسه إن أحد معارفه وهو وكيل للمباني انتحر بعد خمسة أعوام لأن ابنته الوحيدة ماتت، فلماذا انتظر خمسة أعوام، رغم أن الناس يعتقدون أن الزمن يُنسي وأنه رحمة للذاكرة، يجيب كامو أن الموت باض في قلب ذلك الأب الثاكل، لكنه استغرق خمسة أعوام حتى يفقس فيه.
فكم من علماء النفس والاجتماع تحتاج تلك الفضائية لتكشف عن الدافع الحقيقي لجريمة من هذا الطراز، بالطبع لن يخطر ببال طاقمها أي شيء كهذا، لأن المثقفين من حولها ومعظمهم من زبائنها عاطلون عن العمل، وهم أشبه بالنحل الكسول الذي يكتفي بالسكر المطحون، ولا يغامر بالبحث عن الرحيق، فهو نحل عاطل عن العسل وليس عن العمل فقط.
إحساسي الشخصي بالبطالة، رغم وفرة ما أكتب له أسباب أخرى غالبا ما هربنا من البحث عنها وتواطأنا ليبقى تعريف المثقف هاجعا في القواميس أو في الذاكرة القومية، التي تعاني في نصفها على الأقل من الأمية، مما يتيح للأعور أن يزعم ما هو ابعد من الملك في بلد العميان، بحيث يدّعي أنه زرقاء اليمامة.
إن بطالة المثقف تستمد أقنعتها من أوهام النسبية والقياس على ما هو سائد، بحيث يصبح الأقل جهلا هو الأعلم والأقل رداءة هو الأجود، هذه النسبية السفسطائية تزدهر في أزمنة غاشمة يحلّ فيها التّسفيل بالمعنى الفرويدي مكان التصعيد، وتتولى القيادة فيها ما يسميه جارودي الخلايا الزواحفية للدماغ، حيث تنتصر الضرورة على الحرية والامتلاك على الكينونة، وهذا ما لخّصه إريك فروم في تحويره للمقولة الشكسبيرية «أن تكون أو لا تكون» بحيث أصبحت «أن تَملك أو أن تكون»، بعد أن تضخّم وتسرطن هاجس الامتلاك في عصر السعار الاستهلاكي، بحيث كما يقول فروم نفسه، أصبح الإنسان يرغب حتى في امتلاك الأمراض فيقول عندي صداع أو لديّ غثيان في المعدة.
وإذا كان فقراء أيامنا أثرياء، وفق تعريف الفقر قبل قرن، فإن المثقفين الذين ارتهنوا للتعريف المعجمي، وحولوا مصائب الأمية والتخلف إلى فوائد لهم وفق المقياس النسبي، هم الآن عاطلون عن العمل، رغم كل ما يكدحون به من عمل شبه يدوي. وهناك حكاية تستحق أن تُروى عن إرنست همنغواي الذي قرر إنهاء البطالة الروحية برصاصتين من بندقية صيد، قال إن جاره عندما يمر بباب منزله ويراه ممددا على أرجوحة ولا يفعل شيئا يطرق بابه، لكنه حين يراه منشغلا بتشذيب أشجار الحديقة لا يفعل شيئا، وحين تكرر الأمر عدة مرات، اضطر همنغواي إلى إفهام جاره بأن البطالة غير ما يعرف على الإطلاق، لأنه يعيش في عصر يتصبب فيه عرق البطالة على الجباه غير المأهولة.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *