*تحسين الخطيب
ذات ليلة، في العام 1880، حلّ جون سوينتون ضيفًا على مأدبة أقامها على شرفه نادي الصحافة في نيويورك، بمناسبة تقاعده. فجأة، قام أحد الحاضرين، برفع نخب في “صحّة” الصحافة الحرة. لم يرق ذلك إلى سوينتون، فانفجر غاضبًا، قائلًا لزملائه الحاضرين: “إنهم يعرفون جيدًا، مثلما يعرف هو، بأن لا وجود لصحافة حرة في أميركا، على الأقلّ في تلك اللحظة من التاريخ”.
ثم أكمل الصحفي العريق (والذي عمل في صحيفة النيويورك تايمز، رئيسًا لهيئة محرّريها، وفي صحف عريقة أخرى، منذ ستينات القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين) خطابه قائلًا: “إنهم لا يجرؤون على كتابة آرائهم الصادقة، لأنهم يعرفون مسبقًا، بأنّ آراءهم تلك لن تنشر”. ثم ذكّرهم بأنهم يتقاضون رواتبهم لإبقاء آرائهم الصادقة بعيدًا عن الصحافة، وإلّا وجدوا أنفسهم في الشارع، باحثين عن وظائف أخرى. إنّ عمل الصحفي، يكمل سوينتون خطابه، هو: “أن يخرّب الحقيقة، وأن يكذب تمامًا، وأن يُحرّف، وأن يفتري، وأن يتزلّف عند قدميْ عجل الذهب (سلطان الجشع)، وأن يبيع بلده وأبناء جلدته لقاء خبزه اليومي”.
ثم يختم خطابه، بمقولة صارخة: “إننا أدوات الرجال الأغنياء الذين خلف الكواليس، وعبيدهم. إننا كراكوزات، فحين يشدّون الخيوط، نرقص. كل مواهبنا، وإمكانيّاتنا، وحيواتنا، هي ملك رجال آخرين. إننا مومسات مثقّفات”.
نعم، إنه زمن “المثقف المومس”. زمن الذين يسجدون، ليلا ونهارا، عند قدميْ “عجل الذهب”.
وليس ثمة بالغ اختلاف بين تلك اللحظة التاريخية التي قال فيها سوينتون خطابه الشهير ذاك، وبين اللحظة التاريخية الفارقة، والحاسمة، التي نعيشها الآن في العالم العربيّ. وهي لحظة لم تكن أشدّ وضوحًا، تاريخيًّا ومعرفيًّا، ممّا هي عليه الآن. ولا أقصد بالوضوح، وضوح الرؤية والقدرة على قراءة الأحداث واستنباط مقدّماتها، واستشراف مآلاتها، فحسب، وإنما، أيضًا، على صعيد وضوح “صورة” المثقف العربي على نحو لا تأويلات فيه مختلف عليها كثيرًا. فهو إمّا في صفّ الشعوب وتوقها إلى الحرية، أو في صف الطغاة والمستبدين، منافحًا عنهم، ومبرّرًا جرائمهم بكل ما أوتي من قوّة وعزم.
لقد أسقطت ثورات الربيع العربي جميع الأقنعة، وأماطت اللثام، على نحو واضح وجليّ، ولا لبس فيه (وإن اختلفت مفردات القراءة الواحدة) عن كثير من مثقفين عرب كنا نعتقد، لبرهة مديدة، بأنهم من أشدّ الحالمين بالحرية. فما إن اندلعت الثورات، حتى عاد هؤلاء المتلوّنون المزعومون إلى كهوفهم الإثنيّة الضيقة، وراحوا يقتاتون على كلّ ما تدّخره تلك النزعة الضيّقة من حقد وكراهية تجاه الآخر، كلّ الآخر.
فلا يمكن لأيّ شخص يدافع عن الجرائم الوحشيّة الفظيعة التي يرتكبها طغاة العرب ومستبدّوهم ضد الأطفال والنساء، أن يكون “موضوعيًّا” في دفاعه ذاك، حتى ولو بلغت الحجج والذرائع التي يسوّقها عنان السماء؛ كما لا يمكن أن يكون ذلك الشخص، بالنسبة إليّ على الأقلّ، إلاّ واحدًا من اثنين: إمّا مرتبطًا، أساسًا، ومنذ أن قذفته أقداره الحمقاء في أتون الثقافة، بأجهزة تلك الدول، أو هو قابض مالًا (أو منصبًا) لقاء خدماته المعرفية/التبشيريّة تلك. وما يفضح هؤلاء، شر فضيحة، هو عندما نراهم يتألّمون، إنسانيًّا، ويتلوّون كالأفاعي، على شاشات التلفزة، وعلى صفحات المجلات والجرائد، وفي فضاء الإنترنت والمواقع الإلكترونية، وهم يبكون على دماء ضحايا هذا الطرف، دون سواه. فأيّ إنسانية ملطخة بالدماء هي هذه. وأيّ بشر هم بحق الجحيم هؤلاء!
يذكرنا الشاعر الأميركي تشارلز سيميك، في كتاب يوميّاته، “المسخ يعشق متاهته”، بأن الطاغية الذي يتلذذ بقتل بشر كثيرين، يحتاج إلى المثقفين من أجل “تقسيم القتلة إلى أخيار وأشرار”، ولتفسير أن شرّ هؤلاء الطغاة وبطشهم هو من أجل مصلحة الناس. ثم يذكّرنا، أيضًا، بأننا حين “نعجب كثيرًا بالقتلة الجماعيّين، المتعطّشين للدماء، الذين بين ظهرانينا… فمن الواضح بأنّ الأمّة تشعر، بشدّة، بأنّ البؤس الذي في العالم لم يكن كافيًا، وأنّ المزيد مرغوب فيه، لذا، بالطّبع، فإنّ المزيد هو ما سوف نحصل عليه”.
إنه زمن “المثقف المومس” في أقصى تجليّاته. زمن الكذب والعنف، حيث تصبح فيه “الضرورة الملحّة لجنون المرء، مسألة كرامة لا أتوقّع أن يفهمها أحد”..
____
*العرب