ابراهيم صموئيل
في ندوة ضمت مجموعة كتاب وناشرين ومشتغلين في شؤون الكتاب، وكان موضوعها الرئيسي حقوق الكاتب والمترجم والناشر وكيفية ضبطها والمحافظة على توازنها وعدالة توزيعها، قدم أحد الحاضرين مداخلة تساءل فيها “وماذا عن حقوق القارئ؟!
أليس من الضروري إيجاد ضوابط وقوانين وأنظمة تحفظ للقارئ حقه أسوة بغيره من المعنيين بالكتاب؟”.
ولكون الكتاب يُؤلف ويُطبع للقارئ أساسا، فإن حقوق الأخير هذا هي في لب العناية بشؤون الموضوع، إذ من دون القارئ تبطل ضرورة وجود الكتاب. وهذا ما فتح الباب للحديث -أيضا- عن حقوق القارئ المهملة بل والمضيعة لدى المعنيين بحفظها والمحافظة عليها.
والسؤال الذي يطرح نفسَه في الحياة الثقافية العربية الراهنة هو: هل من جهات تُعنى فعلا -لا قولا وشعارات فارغة- بحقوق القارئ العربي، والمتلقي بعامة، من الضياع والتعدي، وتحافظ على رفعة ذائقته وسلامتها من التشويه والتخريب والتدني؟
هل من جهات أو مؤسسات أو هيئات أو لجان ثقافية.. مهمتها الرئيسية وشغلها الشاغل درء المخاطر عن المنظومة الثقافية وحق المتلقي بسلامتها وخلوها مما يضر به؟
حماية المستهلك
مشروعية السؤال تتأتى من وجود هيئات أو جمعيات لحماية المستهلك للمواد الغذائية وغيرها، ومراقبة وفحص جودة المنتجات ومواصفاتها وخلوها مما يخالف السلامة الصحية، ووجود هيئات ومؤسسات طبية متخصصة بمراقبة الدواء، ومطابقة مواده ومنتجه للمواصفات القانونية التي تؤمن الصحة والسلامة. فلِمَ لا يكون ذلك لازما في ما يتعلق بالسلامة الروحية والفكرية والثقافية للمتلقي؟
“مستهلك” الثقافة بحاجة، من غير شك، إلى ما يحميه، ويُحافظ على سلامة ذائقته من الغش والاحتيال، ويدرأ عنه مخاطر المتاجرين بعقله وفكره وماله وبنائه الذهني والوجداني، إذ المتلقي -هنا أيضا- يمكن أن يكون عرضة “للمنتجات” الفاسدة التي ينتجها ويروج لها عدد من المتسلقين والمتكسبين والمتعدين على الثقافة والفكر!
ولقد اعتدنا في هذا الشأن القلق والتحذير من التسلط ووصاية السلطات الاستبدادية على حرية التعبير، إلى حد جعلنا نفرط بحق القارئ، والمتلقي بعامة، ونتيح في المجال لكل من هب ودب من المتاجرين في هذا الميدان للعبث والتشويه والتخريب في الحياة الثقافية.
إن المحاذرة من التسلط لا يجب أن تعني بحال ترك الحبل على الغارب، بل البحث عن سبيل يكون خارج الرقابة الاستبدادية من جهة، وبعيدا عن المتاجرة بحقوق القارئ والمشاهد وغيرهما من جهة أخرى.
هل من شك في أن الحياة الثقافية -كالحياة الغذائية والحياة الصحية والحياة البيئية- تتعرض لتعديات وتلاعب واستغلال على غرار سواها من الحيوات؟ وهل من شك في أن ضرورة حماية الحياة الثقافية، والمحافظة على أبنائها من مخاطر فسادها، ليستا أقل أهمية من ضرورات الحرص في الحقول الأخرى غير الثقافية؟
الكتاب الرديء
وفي الواقع، فإن حماية “مستهلكي” الثقافة والفن ليست فكرة عبثية أو شطحة من الشطحات، إذ إننا ندرك جميعا حجم التخريب والإضعاف والإفساد الذي يصيب عقول الأجيال الناشئة، ويلحق بمفاهيمها وأفكارها وبنيتها جراء أعمال عديدة، مطبوعة ومقروءة ومرئية، ذات مستويات سطحية ومبتذلة وهابطة، تخرب ذائقة متلقيها وتهبط بها، إلى أن تُدمن ما تم حشوها به وتعويدها عليه، فلا تتمكن -بعد ذلك- من استساغة وقبول وتمثل النتاج الثقافي العميق والرفيع.
وهذا ما حث مارسيل خليفة، مثلا، على التحذير منه وضرورة التنبه إلى مخاطره، فيما يتعلق باللون الغنائي الذي يقدمه ومجموعة من الفنانين أمثاله، إذ لن يجد مطرحا لدى ذائقة وأذن المتلقي المحاصر بالتافه والمبتذل والخليع والاستهلاكي الرخيص الذي يعجز العقل عن تخيله، على حد تعبيره ذات يوم لدى استضافته في نقابة الصحافيين في القاهرة.
ولا شك في أن هاجس حماية ثقافة وذائقة القارئ العربي من مضار وأذية الكتب الهابطة التي تنتشر كالفطر السام في بلداننا، هو ما دفع بمجلة “الناقد” اللبنانية -على سبيل المثال- لأن تتفرد بتخصيص مساحة من صفحاتها تكون “دليل الناقد إلى الكتاب الرديء”، حيث كانت ترصد وتراجع كل شهر عددا من الكتب الرديئة الصادرة مما لا تساوي قيمتها -بحق- ثمن الحبر الذي هُدر في طباعتها!
وفي يقيني أن ثمة العديد من المخارج، والعديد من الحلول، والعديد من الضوابط -لو أردنا- لإنقاذ أجيال تتفتح أعينها على هذا الغث المخيف والمدمر لثقافتها وفكرها وذائقتها.
ثمة ضرورات ملحة لبذل الجهود، ولتفعيل أذهان المعنيين بتفتح ورفعة الحياة الثقافية من أجل إيجاد ما يصون ويرعى الحقوق الثقافية للمتلقي، والتأمين على سلامة ذائقته ووعيه وعقله من “المنتجات” المخربة لها والهادمة لبنيتها والهابطة بها على أيدي السماسرة والمتاجرين بالثقافة والفن والفكر، وما أكثرهم!
—–
الجزيرة نت