في سان هوزيه، أمضيتُ بعض الوقت مع ذكرياتي النيئة


*ناصر ثابت


خاص ( ثقافات )
هو وهي جالسان معاً 
ولكن ليس على نفس الطاولة
في مدينة وهمية، أصابَ التعرُّقُ شوارعها
هي كانت باردة بعض الشيء، في هذا الربيع المرّ
وهو كان يجالسُها، لكن ليس على الطاولة نفسها
هي في أجملِ ثيابِها، وهو مستعدٌ للغزل
هي بعيدةٌ عنه، وهو قريبٌ منها
يراقبها وتراقبه
يراقبُها حتى يقولَ لها: “كم أنتِ جميلة هذا المساء”
وهي تراقبُه حتى تهرب من عينيهِ، خجلاً 
الباراتُ الخضراءُ تشتري الابتسامات من المحزونين
وهما، جالسان معا، ولكن ليس على نفس الطاولة
الباراتُ في سان هوزيه
لا تشبه تلك الموجودة في LA
ولا تشبه تلك الموجودة في رام الله
ولكن العشّاقَ في كل مكانٍ يتشابهون
إلا في شارع كامينو أولمو، في المبنى رقم 1610
العشّاقُ في كل مكان يتشابهون
ويجالسُ الواحدُ منهم حبيبتَه
لكن ليس على نفس الطاولة.
***
آخذُ زاويةً قصيّةً، وأكتبُ
أُدخِلُ نفسيَ في الأحداثِ
أرويها من طرف آخرَ 
من زاوية المطعم الفاخر المتثاقل في مشيته
في سانتانا رو، تتسلل الأساطيرُ إلى البارات المخضرَّة
تتعرَّقُ الشوارعُ، وتراقبني بلا عينين امرأةٌ لا أعرفُ أصلَها ولا فصلَها
أفترضُ أنها تريدُ أن ترتدي اهتمامي ثوباً لسهرتها الليلة
المكان فاخرٌ، وقبيحٌ في آن
الكثير من الزهور الصناعية التي لا أعرف أسماءَها
والعطور الغالية الثمن التي تغذي نهمَ أعمدة الكهرباء
والسياراتُ التي تمرُّ تفتح أبوابَ العتمة
وتدخلُ في متاهاتِها الخفيفة.
هناك في مكان آخر، عاشقان يجلسان في مدينة وهمية
شوارعُها لا تعرفُ النوم
يجلسان معاً ولكن ليس على نفس الطاولة.
في هذه الليلة الفاخرةِ التي تمتدُّ من أروقة سانتانا رو إلى مدينة إكس
إلى رنين الأجراس فوق سرو الكرمل
أرسلُ شعاعاً من الضوءِ الأخضرِ 
إلى القلبِ الذي لا يدركُ ماذا يقول
أتمدد في البؤس
وأتسلى بالفراغِ الصاخبِ الذي يلفني
يئنُّ صوتٌ ما
من تحت عجلاتِ قاطرة مهترئةٍ متخيَّلةٍ
لا أعرفُ مصدرَ الصوتِ
أرتدي ثرثرةَ النوافير
وأمشي قليلاً كما نصحني الموت
قال: “امشِ حتى أتجنبكَ بعضَ الوقت”
الشِّعرُ العامُّ تزينه الكلماتُ المنقولة بحِرَفيَّةٍ عن قصائد إدغر ألين بو
صراعات خفية في كل مكان
بين الأسلاك الشائكة والدولارات المزيفة
أغنية تصدحُ فوقَ كرسيٍّ واحدٍ وحيدٍ أجلسُ عليهِ
لأعدَّ الخرزاتِ الملونةَ في شَعرِ نساءِ سان هوزيه
أعود إلى مدينة المديح المتثاقل
أشرب بعض القهوةِ، بعد أن خذلني النبيذُ 
ورأيتُ رايةً غيرَ مفهومةٍ ترفرفُ فوقَ سحبي
دبيبُ السيارات على الشوارع المكسَّرةِ
يذكِّرُني بماضٍ كان هنا
والأبنية المجعدة التي تقدمت في السن
تشدني إلى حكمتها الخفيفة
لا أستسلمُ لحماسةِ محدِّثتي على الطرف الآخر من الهاتف النقال
اقبِّلُ الفكرةَ التي تعتريني
وأجلس للكتابةِ بعضَ الشيء
أكتبُ ما لا تقرأونه هنا
وأسألُ أسئلةً لا تعرفُ ملاطفة التيار الكهربائي
تهاجمني، في مخيلة الريح، خيول قادمة من التاريخ
أفضِّلُ أن أركبَ دراجة ابنتي الصغيرة
على أن أردَّ عليها.
انهضُ من طفولتي مرة أخرى
اخرجُ من هذه المدينة الوهمية قليلاً
أعودُ إلى التأملِ، وأرتدي الحطام الذي تركته الهزة الأرضية خلفها
أشتهي ملاطفةً خطيرةً لصورة امرأةٍ لا أعرفُها ولا تعرفني
ولا اجالسُ إلا المدى العبثي
حتى أتوغل في وحدتي أكثر
مدينةٌ وهمية مثل كل المدن، لا تزيدني إلا عزلةً ووحدةً
وبشكلٍ مبالَغٍ فيه
مثلاً،هنالك من يلعبون الشطرنج
ولا مكان لي بينهم
وهنالك من يلعبون النرد
ويدعونني لكي أنضمَّ إليهم
ولكنهم لا يعرفون أنني لا ألعبُها
فتزيد عزلتي حزناً وبروداً
تتوتر أعصابُ الأشجار
وتخرجُ النارُ من أفكار المخمورين
يرقص الناسُ في باراتٍ مفتوحة على الشارع
كانها تستعدُّ للاستفراغ
تراقبني عيونٌ بلا جفونٍ
ووجوه بلا عيونٍ
وأجسادٌ بلا وجوهٍ
وبشرٌ بلا أجسادٍ
ومدينةٌ فاخرة من غير ودٍّ
هذا السكوت الصعب
يتكيءُ عليَّ كأنني أشتهي الانتظارَ في الأزقة الغريبة
فالكراسي التي أجلسُ عليها صقلتها الأحزانُ لكي تناسبَ عبوسَ الوقتِ
وحتى تطردني إلى عالمٍ آخر لا أنتمي إليه
يسقطُ المطرُ بغزارةٍ
دون أن يلمسَ الأرضَ
ويصعدُ نور الشمسِ إلى الاعلى
يعود إليها مهزوماً
تقاطعني سنابل القمح وترفضُ محاورتي
ويتبرعمُ الرجاءُ في جيبي
الجدرانُ الملونة يعتريها أملٌ خفيفٌ
ولون النخيلِ يميل إلى الأحمر الدموي
نخيلٌ مصنوع من أفكار البشر
ومرمي هنا لكي يتجسس عليهم
أما النجيلُ فيحاولُ أن يتشبَّه بالعشبِ البري
ويفاخر بمنافسته.
ستائرُ الساتان تصبُّها غرف الفنادق الفاخرة على شرفاتٍ بلا أبواب
يولدُ الصمتُ من أروقة المدينة الوهمية النائمة
يخرجُ النملُ دون أن يزعجَ أحداً
لكي يشارك البشرَ أفراحَهم
يرتدي أجمل ثيابه، ويطير باجنحة فسيفسائية 
ويحطُّ على أكتافِ المحتفلين في الباراتِ والملاهي
دون أن يزعجهم
لا يحسِّونَ بشيءٍ، يواصلون الرقصَ
وأنا أواصل الكتابةَ
أما في منتصفِ المكانِ
حيث تتكوم جذورُ الكآبةِ والمديح الخفيف
والأساطير الباردةُ
فإن الناظرَ يشتهي ألا يرى وجهه في مرآتها.
يتحررُ القادمونَ من الأماكن البعيدة 
من أوروبا
ورام الله
والباكستان
يتحررون من أفكارهم السابقة
ويجالسني رجلٌ ألمانيٌّ يأكلُ الزبدةَ والمربى
ويسألني عن أصلي
أرتبكُ وأتلعثمُ وتخونني الفكرةُ
أراني قادراً على محاورته، لكن الشمسَ التي انعكست على وجهي 
انستني رامين وما حولها
وهكذا، يساهم الفقدان المؤقتُ للذاكرةِ في ضياع الأوطان
يكررُ علي السؤالَ
فأجيبه كما يشتهي أهل البلاد المحتلة
وكما يشتهي أجدادي الذين خرجوا منها خوفاً على أرواحهم
ونسوا أن يخافوا على التين والزيتون والصخور الصغيرة المتناثرة هنا وهناك
تولد الحكايةُ من سمائي التي تردد أسماءَ الشوقِ الفاخرِ
بانتباه وانتصارٍ على الذات
أركبُ دراجة ابنتي
وأرتدي فكرة القط “ستار”
وأختفي عن الوجود
أفتش في كومة الأسئلة 
عن إبرة خفيفة الأمنيات
وعن نهرٍ باهتٍ
وعن شوارعَ يعتريها الخوفُ
وعن أبنية لا تُرى بالعين المجردة
واكتبُ قليلاً
أكتبُ ما يكفي لكي أظل على قيد الحياة
تموت الأشجارُ على كتاباتي
ولا تجدُ فيها مكاناً تقضي فيه حياتَها خارج الزمن
المطر يشتاق إلى التراب
وأنا أشعلُ النارَ حتى أتمكن من رؤية حروفي.
أول مرةٍ أرى ما كتبتُ
تصيبني دهشة من نوع الخيبةِ
أرقِّم الصفحاتِ
وأخرجُها من الدفترِ
وأمزقها بعفوية اعتدتُ عليها
هذه الهلوسات التي تشبهني 
لا تستحقُّ إلا الموتَ، وسلة المهملات
أشفقُ عليها
وأزرعُها في التراب
وأنتظر المطرَ أن يلامسَ الأرضَ
وأرتل القصائد كالنصوص المقدسة
مدينة وهمية
تجلسُ على عرش النسيانِ
تنكسرُ كالخيمة الواهية
وتتردى إلى آخر الصمت
أقرأ ما تيسر من هذه الكلمات البعيدة عن الواقع
ويصيبُ الاضطرابُ المقاهي والمطاعمَ خارجَ غرفتي
كيف نمتُ هذه الليالي الثلاث في سان هوزيه
وتحت شباكي بارٌ إيرلندي
يحترفُ مقاومة النومِ والمحتلين
أرى صورتي في مرآةٍ دائرية
فجأةً أسمعُ دقاتِ الساعةِ
أحسُّ بخشخشةٍ خفيفة في أجنحة النخلِ
وأدركُ أنه وقت النومِ
ولكنني
لا 
أنام.
14-5-2014

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *