ثقافة القراءة.. الخبز اليومي للمعرفة


*غدير المزيني


القراءةُ عضلةٌ غَضة يؤدي التهاون في نشاطها إلى تشنجها على المدى البعيد، ما يُقلص القدرة على الكتابة، ويقيد سيل الأقلام عن نثر عبق الكلمات والأحرف على صفحات الأيام. وإن كان «خيّرُ جليس في الزمان كتاب»، فالقراءة هي الصفة الملازمة للعقل المستنير، ولبنة الأساس الأولى في تشييد عمران الإنسان العصري، وبناء الحضارة الإنسانية أَجمع، التي تقوم في مقامها الأول على المعرفة؛ تلك المفردة التي يطول الحديث عنها، ولا تنحصر على لغة واحدة فحَسبْ، بل تتعدى كل حواجز الألسن، ومفارقات الثقافات، واللهجات؛ لتحقق تفاعلاً مُجدياً وغاية منشودة تفيد صاحبها وتعلي من قدره، حاجزةً له مكاناً رفيعاً على القمة الشامخة، بين أسماء المفكرين البارزة، وأصحاب العقول اللامعة.

رصدت «الخليج» في التحقيق التالي معدلات القراءة حول العالم، والمبادرات العالمية لتشجيعها بين شرائح المجتمع المتنوعة، والطرق الغريبة للقراءة، التي اهتم أصحابها بشدِّ الرحال إلى الوجهة المقصودة، ألا وهي المعرفة، بصورة أكبر وأبلغ من الوسيلة المُتبعة للوصول إليها، والفترة الزمنية لبلوغها.
أوضح تقرير (التنمية الثقافية)، الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي في الدورة العاشرة، أن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنوياً، في حين يتناقص معدل القراءة لدى الفرد العربي إلى 6 دقائق في السنة، وأضاف التقرير، أن مستوى القراءة في الدول العربية يتفاوت من بلد إلى آخر، بناء على العديد من العوامل، ومنها: الفارق العمري، والمستوى الثقافي، والاقتصادي، والوسط المعيشي، والجغرافي، والبيئي، وتوصل التقرير إلى أن بيئة التعليم الناقصة، هي السبب وراء تعطيل علاقة الإنسان بالكتاب، إذ ينبغي على القائمين على إصدار المناهج الدراسية التطوير في المنظومات التعليمية العربية كافة، من أجل تكوين جيل جديد قادر على رفع نسبة القراءة، وتنمية مداركه.
ومن جهة أخرى في الصورة عيّنها، يبلغ نصيبُ المواطن الأوروبي مما تطبعه دور النشر والتوزيع، من إجمالي الكتب سنوياً 518 كتاباً، فضلاً عن 212 في أمريكا للمواطن الواحد، في حين عدد ما تطبعه الدول العربية بأكملها يُقارب المليون كتاب، موزعةً على ثلاثمائة مليون مواطن عربي، موزعين على النحو التالي: 60% منهم أميّون وأطفال، و 20 % لا يقرؤون أبداً، و15 % يقرؤون بشكل متقطع ولا يحرصون على اقتناء كتاب، هذا مقابل نسبة 5 %، ممن يواظبون على القراءة بشكل دؤوب، وهذه النسبة تغطي المليون وخمسمائة ألف مواطن؛ أيّ أن نصيب المواطن العربي يكون أقل من كتاب واحد سنوياً.

إن كانت الإحصاءات ومعدلات القراءة في دول الغرب أكبر مما هي عليه في الدول العربية، فعلينا النظر إلى ما خلف حدود الصورة الظاهرة، لمعرفة مكامن هذه الأرقام والنسب المرتفعة في عالم القراءة العالمي، ولتكن بداية الانطلاقة من ألمانيا، إذ كان معظم التلاميذ الألمان يربطون الكتب والقراءة بالمدرسة ودروسها ولا ينظرون إليها كمصدر شائق لاستقاء المعرفة، لذا عملت الجهات والسلطات المعنيّة إلى مواجهة تراجع الرغبة في القراءة، وأقيمت في الأعوام الأخيرة مبادرات عدة، للحث على القراءة خارج أفنية المدرسة وصفوفها، وفي ما يلي استعراض لبعض نماذج هذه المشاريع:
• قامت جمعية تشجيع القراءة بتأسيس ناد يضم حالياً أكثر من تسعة آلاف عضو يتطوعون للذهاب إلى رياض الأطفال والمدارس، من أجل قراءة الكتب على الأطفال هناك بصوت عالٍ، إذ توصلت الجمعية، بناءً على دراستها الميدانية وأبحاثها التي عقدتها في الآونة الأخيرة، إلى أن الكتب والقراءة لا تشكل جزءً ا مألوفاً من حياة العائلة الألمانية، إلّا في ثلث الأسر التي لديها أطفال تحت سن العاشرة، ويمكن أن يكون أحد الأسباب هو عزوف العائلات عن القراءة بصوت مرتفع خاصة للمواليد الجدد، حيث تلعب القراءة بصوت عالٍ دورا في إثارة ذهن الطفل وتشجيعه على مواصلة القراءة بشكل ينافس القصص المصورة المعروضة على شاشات التلفزيون.
• أسست جمعية تشجيع القراءة منذ عام 1988، بدعم مشاريع خاصة تشجع على القراءة، حيث كثيراً ما تتولى الجمعية رعاية مبادرات بالتعاون مع دور نشر الكتب والصحف، كما تبذل شركات وشخصيات أخرى جهوداً لنشر ثقافة القراءة في المجتمع، ومنها على سبيل الذكر رجل الأعمال«مانفريد لاوتنشليغر»، أحد مؤسسي شركة MLPللخدمات المالية، من مدينة «هايدلبيرغ» في غربي ألمانيا، والذي اطلق بالتعاون مع جمعية تشجيع القراءة مشروع «بداية القراءة»، والذي يحصل بموجبه جميع الآباء الذين يولد أطفالهم في مستشفى الولادة الجامعي في المدينة على هدية تساعدهم على البدء بالقراءة لأطفالهم، حيث تشتمل الهدية على نصائح وإرشادات في القراءة بصوت عالٍ وعلى كتاب مُصور، كما تُوضَع تحت تصرف الوالدين بعد عام على ولادة الطفل مجموعة أخرى من الكتب تهديها إليه المكتبة العامة لمدينة هايدلبيرغ.
• ومن أجل ترسيخ هواية القراءة لدى الأطفال تم اللجوء إلى مشاريع أخرى تعتمد على وسائل الإعلام الحديثة، ومن هذه المشاريع مشروع «كتابي المفضل»، الذي يعمل برنامج «توغو» التلفزيوني على تقديمه، عبر قناة سوبر أر تي أل أو «RTLSuper» التي تعتبر منبرا للمشاهدين، ممن تتراوح أعمارهم بين سن الثالثة والثالثة عشرة، إذ تقوم مُقدمة برنامج توغو باستعراض كتب مختلفة ومناقشتها مع ضيوف البرنامج، وبعدها يمكن للأطفال التصويت على الموقع الإلكتروني للبرنامج لاختيار كتابهم المُفضل، ويعتبر هذا المشروع ناجحاً إلى حد بعيد، حيث تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 22.000 طفل قد شاركوا في عملية التصويت عندما طلب منهم اختيار كتابهم المُفضل من صنف الروايات البوليسية، وقصص رجال التحري والعملاء السريين.
أما في أمريكا، فلم يقتصر التشجيع على القراءة في النوادي والجمعيات والمدارس، بل تعدى ذلك كله ليصل إلى صالونات الحلاقة، حيث قدم الحلاق «هولمز» حلاقة شعر للأطفال مجانية قبل ذهابهم إلى المدرسة، شريطةَ القراءة له بصوت عالٍ وبطريقة سليمة في صالونه، وذلك تشجيعاً لهم على تعلم القراءة، وذكر موقع «ميرور» البريطاني أن هولمز استعرض العديد من الاقتراحات المفيدة للأطفال؛ ومن أهمها وضع عدد من الكتب على الطاولة الخاصة بمكان الحلاقة، ليأتي الطفل ويختار ما يشاء منها، ويبدأ بالقراءة، وعند القراءة الصحيحة تتم الحلاقة له مجاناً.
فيما انتهزت دار كتاب الجيب الفرنسية فرصة إجازة الصيف، المُمتدة من يوليو/‏‏‏‏‏‏ تموز حتى نهاية شهر أغسطس/‏‏‏‏‏‏ آب من كل عام، لتطلق فكرتها المحفزة على القراءة، من خلال المكتبة الجوّالة، المكونة من شاحنة صغيرة تكون كالمكتبة الحقيقية، لكنها متحركة تذهب إلى القراء حيث مكانهم، وتطوف وجهات البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطي، وتحوي حوالي 300 كتاب من أنواع مختلفة وفئات متنوعة: كالروايات البوليسية، والرومانسية، وكتب الشباب، وكذلك الرسوم المتحركة، وبطريقة مشابهة تمشت مركبة المعلم الإيطالي المتقاعد«أنتونيو لا كافا» في شوارع إيطاليا؛ لتعميق ثقافة القراءة وحب المطالعة بين سكانها الصغار والكبار على حد سواء، حيث ابتكر«لا كافا» طريقة جديدة، لتشجيع الناس على القراءة في بلدته، من خلال تحويل مركبته الشخصية إلى مكتبة متنقلة تجوب أنحاء الدولة.
ويُضاف إلى هذه المبادرات الفعّالة أيضاً، فكرة «جماعات القراءة»، التي وُلدت في أمريكا، وتبلورت غايتها حول اجتماع عدد من القراء لمناقشة كتاب معين، سواء بالتجمع الفعليّ في نوادي القراء وجهاً لوجه، أو من خلال الشبكات الاجتماعية، التي أتاحت أنظمة الفيديوهات الجماعية والتلاقي الإلكتروني، بدلاً من الذهاب لمكان بعيّنه، هذا واستطاعت نوادي القراءة الأمريكية في وقتٍ من الأوقات، إلى وضع الكتاب الذي تجري مناقشته على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً وقراءة داخل البلد نفسه.
تصنيف البلدان حسب معدلات القراءة والكتابة
تحتل جورجيا المركز الأول بين قائمة الدول المُصنفة بالاعتماد على معدلات القراءة والكتابة فيها، كما ورد في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2009، يليها في المركز الثاني بلاد كوبا، وإستونيا، ولاتڤيا، وفي المركز الخامس بربادوس، وسلوڤنيا، وبلاروس، ولتوانيا، وأوكرانيا، أما فرنسا فتحجز اسمها في المركز ال 21، بمعدل يصل إلى 99 %، وتشاركها في المركز نفسه ألمانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، ويتبعها إيطاليا في خانة الترتيب السابع والأربعين بمعدل 98.9%.
ثم تأتي إسبانيا في المركز 52 بمعدل 97.9 %، وتتصدر الكويت بعدها في المركز ال 76 لتعتبر أول دولة عربية تُذكر في تصنيف القائمة بين خضم الدول الأوروبية والأجنبية، حيث يبلغ معدل القراءة فيها 94.5 %، ويأتي بعدها السلطة الوطنية الفلسطينية في المركز ال 80 بمعدل 
93.8 %، وقطر في المركز ال 84 بمعدل 93.1 %، والأردن في المركز ال 92 بمعدل 91.1 %؟.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *