حسن نصّور
سرد الكاتب الفلسطيني ـ السوري «رائد وحش» (مواليد 1981)، في باكورته النثرية «قطعة ناقصة من سماء دمشق، 2015»، يحيل المتلقّي بالدرجة الأولى وقبل أي تصنيف أو نقد إلى ذلك المربع الشعوريّ المتحفّز الذي تستنفره المدينة السورية التي انتفضت ربيع 2011.
الكتابة، في هذا الحيز، تستدرج أهميتها، أوّلا، من كونها كتابة شاعرٍ مقيم ومحايثٍ للمكان والنصّ، وتاليا من كونها مجهرا يفتح المكان السوري الذي كان مصفّدا محتجبا عنّا، على حكي وسرد من نوع مغاير.
حكيٌ لا يستمّد مقبوليته أو موثوقيته من كونه ينقل أمزجة هذه الحرب واختناقات العيش وصفات الشخوص وحسب، بل نزيد، فنقول إن مقبوليته في أنه نصّ، على عكس نصوص تنحو منحى التوثيق بلغة أدبية، هو نصّ «الأنا».
الأنا التي لا تكون مهجوسة بالوصف النمطي لمجتمع يعيش تفاصيل الحرب، بل هي «الأنا» المهجوسة بقصصها الصغيرة إذ تقع في الظاهر على هامش المدينة، لكنها في العمق هي مادة المدينة والبيئة والمحيط أو هي أنفاسها وطبقاتها التحتية، إذا صح التعبير.
مضافا إلى تقنية السرد العاديّ الذي يشبه قصصا قصيرة، يبدو النص مستغرقا بمزاج هو نوع من التزخيم الشعريّ، صورا واستعارات ومجازات.
تأويل دلالة العنوان، نعني القطعة الناقصة من سماء دمشق، في مفتتح القصّ هو عمليا صورة شعرية قصوى أو استيهام يضع المتلقي أمام حساسية مغايرة لا نجدها بالضرورة في سواه من القصّ السرديّ الخام. «أنيابٌ عملاقةٌ نهشت جزءاً من القبة الزرقاء مع ثلاثة أرباع غيمة كانت عابرة، إلا أن الفكّ المفترس المجهول جمَّدها مكانها، فعلى حوافِ الأسود لطخةٌ غيمية بيضاءُ تأبى التبدّد..! استغرب الرّاكب الذي بجانبي، في السيارة المتوقفة أمام حاجز الجيش، حين أشرتُ من النافذة إلى النقصان في الأعلى. مدّ رقبته القصيرة في محاولة استطلاع، مدّ عينيه الغائرتين في محجريهما بلا جدوى. دخل على خطّ الحديث ثالثٌ واستغرب أيضاً، ورغم كلّ تأكيداتهما أنّه ما من شيء، أو أني أعاني خداعاً بصرياً» ص9
نفهم ذلك جيّدا حين ندرك أن الكاتب هو شاعر، أصلا، قد أصدر قبل باكورته النثرية، موضوع هذه المقالة، مجموعتين شعريّتين: (لا احد يحلم كأحد، 2008/ عندما لم تقع الحرب، 2012).
يحيل النص بالضرورة إلى سؤال الهويّة. نعني هوية المكان/ المخيّم الفلسطينيّ في سورية. والاحالة بالطبع ليست مباشِرة باللفظ والثيمة، كما أنها ليست معروضة بوضوح خلال القص، بل هي إحالة بدهية، بطبيعة حال الموضوع، وتتصل بسؤال اللجوء قديما أو الهجرة حديثا أو في ما يخصّ الشخصية الفلسطينية وطبيعة تعاملها في حدث جذري بحجم الانتفاضة السورية. نقول «إحالة» إذ إن الكاتب لا يباشر أقوالا نمطية غائية على طريقة كتّاب صخّابين عهدناهم، بل هو قصّ يخدم شخوصه فقط وهيكله السردي ومشاهداته الحساسة على مألوفيتها وعلاقاته بالمحيط عائليا وعاطفيا، ويتوخّى أن ينجز بهذه الشخوص لغته الجذابة المتباسطة بلا أي تورّط بتراكيب فوقية متعالية.
على أن اكتمال هذه المقاطع السرديّة وإنجازها على هذا النحو بالحساسيات الشعورية الدقيقة المطلوبة، سوف يجر المتلقي من منظور أوسع إلى المربع الذي أراده الكاتب ربما منذ البداية.
نعني المساحة التي تكون السلطة فيها مدانة ليس فقط بسطوحها القمعية الظاهرة إنّما السلطة من حيث مآلات البؤس القيميّ المنعكس تفتتا في البنية التحتية للدولة والمجتمع.
الكتاب صادر عن “دار ممدوح”
—-
الأيام الفلسطينية