مذبحة صبرا وشاتيلا وفتاوى يوسف زيدان


*إبراهيم نصر الله



كنت كتبت هذا المقال من مدة، ولكنني تراجعت عن فكرة نشره لأسباب كثيرة، من بينها إصرار الكاتب يوسف زيدان على أن هناك من يشوه كلامه! وهذا يمكن أن يحصل في عالم الصحافة بالطبع، لكن ردود الفعل كانت كبيرة على بعض ما قاله زيدان، في الوقت الذي تعامل فيه مع هذه الردود (حينها) كما لو أنها صدرت عن أشخاص لا وجود لهم أصلا، مع أن بينهم كتابا مصريين كبارا!

صادفت هذه الأيام ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا، ومعها إعادة نشر تبرئة زيدان الصهاينة من هذه المذبحة؛ ويبدو أن هذا الأمر سيتواصل، نعني إعادة النشر، فما قيل بالأمس لا يمكن أن يمحى، لا اليوم ولا غدا، ولذا أنشر المقال الذي لم ينشر.
٭ ٭ ٭
من حسن الحظ أن يوسف زيدان لم يكن (كاهان) قاضي لجنة التحقيق الإسرائيلي في مذبحة صبرا وشاتيلا، التي شكلّتها إسرائيل نفسها، وإلا لكان شارون، مناحيم بيغن، إسحاق شامير، ورفائيل إيتان، قد خرجوا أبرياء من دم الفلسطينيين الذي أريق في تلك المذبحة، التقرير الذي حمّل هؤلاء، وحمّل شارون المسؤولية، بحيث بدا أن تاريخ شارون السياسي قد انتهى إلى الأبد، لولا صعود يمين متطرف أشد عنصرية منه.
يقول يوسف زيدان خلال ندوة «وَهْمُ الصهيونية وخُرافاتُ الماسونية»:»(إن ما يسمى بعصابات «الهغاناه» كانت مجموعة من الشباب الإسرائيلي يحمي قرى يهودية، مثلما خرج شباب مصر فترة ثورة 25 كانون الثاني/يناير وكوّنوا لجانًا شعبية لحماية البيوت، ولم يكن في مذبحتي صبرا وشاتيلا يهودي واحد يحمل مطواة).
يقول شارون في اجتماع الحكومة الصهيونية برئاسة بيغن يوم 10 شباط/فبراير 1983، في وثائق أفرج عنها مؤخرا: ٪بما أنني لست منشغلا بحماسة في الاستنتاجات الشخصية والبحث عن ضحايا وصفْح، فقد تمكنت من معاينة التقرير بشكل جذري، وأريد أن أقول إن التقرير بحد ذاته، برأيي، يتضمن أجزاء يمكن الموافقة عليها وينبغي قبولها لكنني وجدت فيه أجزاء لا يمكن الموافقة عليها». ويطرح شارون تخوفه، في ذلك الاجتماع قائلا: «إنه في حال موافقة الحكومة على تقرير لجنة كاهان .. فإن الحكومة ستكون معرضة لدعاوى تعويض جراء إبادة شعب».
إن ما قدمته القوات الصهيونية لحلفائها القتلة من خدمات لوجستيّة (أو حماية لوجستيّة)، مسألة تتجاوز كثيراً مسألة حمْل المطاوي. فقد مرّ القتلة (حلفاء الإسرائيليين) من تحت أعين القوات الإسرائيلية التي كانت تحتل بيروت وتشغل مبنى السفارة الكويتية في منطقة بير حسن، وهو مبنى ينهض على تلّة قريبة تشرف على المخيمين. وكان بمقدور الجنود (الذين أعفاهم يوسف زيدان من حمل المطاوي)، أن يسمعوا أصوات الضحايا واستغاثاتهم ويشتمُّون رائحة دمهم وهم على مقربة من أرض الجريمة، بل وأن يروا الأرواح الهائمة في المكان.
كما يُسجّل لزيدان هنا بأنه أول عربي يتبنّى المقولة الإسرائيليّة البائسة: «عرب يقتلون عرباً، فما شأننا نحن؟»، التي حاولت إسرائيل من خلالها أن تتنصّل من مشاركتها في الجريمة، ففشلت. فيأتي يوسف زيدان ليستخدمها بخفّة لا تُحتمل، مثل تلك الأسلحة الصهيونية الايدولوجيّة الدفاعيّة الفاسدة.
تمنيت أن يكون أحد مراجع زيدان ذلك العمل الكبير الذي أنجزته الدكتورة بيان نويهض الحوت عن أدق حيثيات تلك المجزرة المرعبة. أو أن يمرّ ولو سريعا على المجلد الضخم «يوميات الحرب 1947 ـ 1949» لديفيد بن غوريون، الذي نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1993، ليطلّ على دور الهغاناه الفعلي عبر هذه اليوميات التي كتبها واحد من أشد القادة الصهاينة تطرّفا. فما يتحدث عنه زيدان هو الدّور (الطيب) الذي قامت به الهغاناه، ألا وهو حماية (القرى اليهودية)، كما لو أن هذا التنظيم الإرهابي ليس جزءا من قوة عنصرية استيطانية غازية. أما إطلاق صفة (القرى اليهودية) على المستوطنات، فهي مسألة أخرى، لأنها تحيل بالضرورة إلى بلد اسمه (إسرائيل) له قراه ومدنه التي يدافع عنها هؤلاء: (الهغاناه)، ويغيّب بالضرورة اسم فلسطين، ويرسّخ في لاوعي القارئ أن هناك فلسطينيين يهاجمون (القرى اليهودية)، (الآمنة)، ويصوّر دفاع الفلسطينيين عن فلسطين كفعل إرهاب، يواجهه شباب الهغاناه الذين يعتبرهم مثل شباب التحرير! وهو هنا يؤاخي بتضليل مفضوح بين الإرهاب والثورة.
لا أحد ينكر على زيدان أو أي مثقف في العالم حقه في نقد المُسلَّمات، وما استقرّ في الذهن العام من حقائق زائفة أو شبه زائفة، لكن قيام المثقف بزرع أفكار مزيفة أو شبه مزيفة في أذهان الناس، يعيدنا إلى دائرة الزيف نفسها، بل إلى مساحة يغدو فيها الزيف محميّا بـ (المعرفة) بعد أن كان محميّا بتناقله بالوراثة أو بقوة المؤسسات الإعلامية، وهناك سوابق عربية وعالمية لمثقفين من هذا النوع، للأسف الشديد.

أعرف أن في حالات كثيرة يجري اجتزاء بعض الجُمل وعزلها عن السياق، وتعميمها فيما بعد، لكن تعدّد المصادر التي نقلت عن زيدان ما قاله، يؤكد أنها لم تتجاوز الحقيقة في ظل عدم وجود أي نفي أو توضيح من زيدان نفسه. وفي اعتقادي أن مواضيع كبيرة كهذه، لا يجب أن يعتمد فيها المُحاضر على الارتجال وحده، بل أن يكون هناك نص مكتوب، هو ما خطّه الكاتب بنفسه لينشر، منعا لأي التباس، لأن مسألة القيام بالردّ على ما كتبه كاتب ما (زميل أو صديق أو نقيض) أو ما قاله، مسألة أسوأ من أبغض الحلال، بالنسبة لي على الأقل!.

أعترف أنني لم أتجاوز هجوم يوسف زيدان (الخطّي) على الشعب الجزائري بعد مباراة مصر والجزائر، وما أعقبها من أعمال عنف، رغم اعتذاره، لأن ما كتبه كان يتجاوز كثيرا (زلة اللسان)، كان ما كتبه معزّزا بمعتقدات سوداء راسخة لديه، حول الجزائريين وجزائرهم. لقد كان ذلك الهجوم أمرُّ وأقسى وأبشع هجوم يشنّه كاتب عربي ضد شعب آخر، ولا يماثله، ربما، سوى ذلك الهجوم الأرعن الذي شنّه سعيد عقل على الفلسطينيين داعيا لإبادتهم.
لا يدعو يوسف زيدان لإبادة الفلسطينيين هنا، بل يفعل ما هو أبعد، إنه يبرئ من مهّدوا الطريق لإبادتهم، يبرئ من قاموا بتأمين الحماية للقتلة، ويبرئ من جلسوا يراقبون القتلة من فوق سطوح المنازل المطلة، يبرئ أولئك الذين كان لبنان بأكمله تحت سيطرتهم كقوة احتلال غاشمة تتحكم في أي تصرف يمكن أن يصدر عن العملاء التابعين لها. في مذبحة بدأت مساء يوم 16 أيلول/سبتمبر 1982 واستمرت ثلاثة أيام!.

تقول الممرضة الأمريكية اليهودية إيلين سيغال في شهادتها أمام لجنة كاهان الإسرائيلية، إيلين التي أصبحت عضوا دائما في حملة «كي لا ننسى صبرا وشاتيلا»: «من المستحيل أن يكون الجنود الإسرائيليون لم يروا من فوق المبنى الذي كانوا يتمركزون فيه ما الذي يجري، ولم يسمعوا ما الذي يجري.. كان هناك ذلك النظام من الاتصالات والإسرائيليون كانوا مسيطرين».

قد يدافع زيدان عن الإسرائيليين باعتبارهم لم يحملوا مطواة في مذابح صبرا وشاتيلا، وهو أمر في منتهى السذاجة لا يليق بكاتب مثله، كأن تقول إن من أمّنوا حماية فرقة الإعدام التي نفذت جريمة اغتيال «أبو جهاد»، أو اغتيال القادة الفلسطينيين في فردان، بيروت، أبرياء، لأنهم لم يكونوا في الغرف التي نُفّذت فيها عمليات الاعدام، كما يشبه إلى حد بعيد أن نقول: إن بيريز لم يحمل مطواة أو بندقية في مذبحة قانا، ولم يحمل موشيه ديان مطواة في مجزرة بحر البقر، أو في مجزرة ذبح الجنود المصريين عام 67، وهذا رأي غريب، يصدر عن المنطق نفسه الذي برأ مبارك وأعوانه من كل تلك الجرائم التي ارتكبت ضد شباب التحرير وشعب مصر.
في حوار آخر مع «المشهد» بالنص والصوت، لا يكتفي زيدان بهذا، بل يسخر من فكرة التباكي على (الأقصى الجريح) وحين يجيب على سؤال: هل لليهود حق في المدينة (القدس) يجيب وكأنه بلفور جديد: بالتأكيد!.

أخشى ما أخشاه أن تكون أطروحات يوسف زيدان هذه، هي المحاولة التنظيرية (العالِمة) التي تُواصل ذلك الغثاء الذي قاده إعلاميون مصريون موتورون ضد الشعب الفلسطيني، بحيث يبدو التعصب والتشويه هذه المرة هما الأكثر مصداقية، لأنهما يصدران عن شخصية (عارِفة) بما لا يمكن لـ (العامة) أو (الخاصة) أن تفكر فيه أو تكتشفه بنفسها، أو تجرؤ على مناقشته!.

في مقاله عن الجزائر كان زيدان يصدر عن خلفية شوفينية ترى كل ما سواها دونها، وفي حديثه عن الفلسطينيين وما حدث لهم كان يصدر عن خلفيّة (علْمية) تحتكر المعرفة، بما يعني ذلك من شعور بالعظمة الشخصية.

وحين تلتقي الشوفينية المتضخِّمة مع الفرد المتضخِّم المُستعلي، ستكون المحصلة تلك التركيبة التي ندعوها الفاشية، والتي بالضرورة ستلتقي مع فاشيات أخرى، هذه المرة، للأسف، هي الفاشية الصهيونية.
___________
المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *