ديالا بشارة*
ثقافات –
وأمها مزق جسدهما للتو بالفؤوس والسكاكين.
في هذه اللحظة لم تكف النوارس البيضاء عن
التحليق في السماء, تدندن ألحان حزينة, ألحان هاربة تناشد دفق الموج المضطرب. تسرح
مع الريح مرة ومع الشطآن مرات. قال:
ـ قفي هنا يا عاهرة!
وقفت مذهولة, مخفورة الأحلام, يغافلها الزمن
ويضيع. نظرت إلى ملامح القاتل, إلى الإصرار القابع تحت عينيه. جلت ببصرها علّ في
المسألة مزحة. نظراته توحي بالشهوة.
وجهه مجدر, مكتنز باللون الكهرماني الداكن, راميًا
قبعته على رأسه بأهمال. وينتعل حذاء كبيرًا.على وجهه ورموش عينيه وثيابه ويديه بقع كبيرة من الدماء
الحمراء, لم تجف. يبدو أنه جزار أوعامل مسلخ:
ـ تحركي بسرعة يا عاهرة. هل تعتقدين أنك في
عرس أوحفلة على مقاسك؟ تعري.
ودون أن يمنحها الوقت الكافي لتستعيد أنفاسها
أمتدت يده الثقيلة وهوى عليها. وقعت أرضًا. دوار غريب لفها وقذفها بعيدًا. لم تفق
إلا على صوت يقول:
ـ تعري.
بدأت أصابع يديها تمتد إلى ثيابها بارتباك
وخوف وخجل وسط ضحك فاجر.
بكاء طفلتها الرضيعة المرمية على الأشواك
يمزق نياط قلبها. تنظر إليها وتفل أزار قميصها وتبكي بحرقة وألم:
ـ أفعلوا بي ما شئتم, مقابل أن تتركوها
بأمان. أن أرضعها بضعة قطرات من الحليب.
سخر الجندي الواقف, وووضع حذاءه فوق جسد الرضيعة الغض. ودحرجها على الأشواك والبحص
والحصى المذببة. وقهقه بصوت عال.
الجنود تابعوا المشهد وسط ابتسامات ساخرة. وجندي
أشيب الرأس استل سيفه, وقال:
ـ ليس لدينا وقت نضيعه مع هذه المرأة
وأبنتها. لدينا الكثير, بضعة آلاف. أنهم على أحر من الجمر للدخول في حرم الموت.
نور الشمس تظلل السماء, تفرش ضياءها
باسترخاء. الوجوه الموحلة تبقى مسمرة على لحظات انتهاء الوليمة.
رفعت المرأة العارية عينيها, وصرخت بحرقة,
بقلب مكسور, وإرادة مسلوبة:
ـ يا للإنسان؟
ممدودة على الأرض تحت
رحمة الأذرع الخشنة. وسيوفهم تتحرك بحرية في كل أنحاء جسدي.
لا أعرف إحساس قاتلي
في هذه اللحظات, بيد أنه كان متفانياً في عمله. بقر بطني وأخرج طفلتي الصغيرة من
أحشائي ورماها على الأرض. كانت حية, نبضها وصراخها في أذني. في اللحظة التي كان
يهم في غرز نصله في عنقي كانت عيني تتوسله أن يشفق على الرضيعة.
لم يبق في قلبي نبض
يخفق أو خوف ينهض من غفوته. تساوت الأشياء في هذه اللحظة. أعيش الغيبوبة التي
أرادها القاتل. ان انزاح عن طريقه ليتابع حياته برفقته الكثير من الجنود والضباط
بسياراتهم الفارهة مزهوين بالنياشين والأوسمة النحاسية.
بعد ان خمد صوتي
وسكتت أنفاسي لم يعد لي القدرة على متابعة الحديث معكم. انتهت مسؤوليتي كامرأة
وإنسان وأم بعد أن مثلوا بجسدي. أنها مسؤوليتكم يا بشر. فأنا إنسانة مثلكم ولدت
لأعيش وأبقى, ليس مهما أن كنت امرأة أو رجل. أنا كائن من هذه الأرض التي شكلتني
مثلكم عبر آلاف السنين. سيبقى أنيني ووجعي بينكم, على أسرتكم, فراش نومكم, وفي
جلساتكم وغرف احتساء شايكم وفنجاين قهوتكم في ضحكات أولادكم, وفي لحظات خوفكم وحزنكم.