*أنطوان جوكي
لم يحتج الكاتب الأوزبكي حميد إسماعيلوف إلى أكثر من 120 صفحة لتشييد روايته الساحرة “البحيرة الميتة”، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثا عن دار “دونويل” بعنوان “في مياه البحيرة المحظورة”، ويسرد فيها قصة طفل كزاخي أراد تحقيق أحلامه في قلب الجنون المدمر للبشر.
تبدأ الرواية التي كتبها إسماعيلوف باللغة الروسية، بصعود مسافر (الراوي) في كزاخستان على متن قطار، قاصدا وجهة تبقى مجهولة حتى النهاية.
وخلال الرحلة، يتوقف القطار في محطة صغيرة، فيصعد طفل يدعى “يرزان” على متنه لبيع حليب رائب، قبل أن ينطلق في العزف على آلة الكمان بمهارة تفتن المسافرين وتخرجهم من خدرهم.
تجارب نووية
وحين يحاور الراوي هذا الطفل يتبين له أن محاوره هو في الواقع شاب في سن السابعة والعشرين. وبما أن الرحلة في سهوب كزاخستان دائما طويلة، يقوم الأخير بسرد قصته عليه.
هكذا يذهب يرزان بنا إلى قرية كارا شاغان التي وُلد فيها ولم تكن تقطنها سوى عائلتين: عائلته التي تتألف من جده بيبي دولي وجدته أولبرسين وخاله كيبيك وأمه كانيشات التي توقفت عن الكلام منذ تعرضها للاغتصاب، وعائلة نوربيس التي تتألف من الجدة ميمي شولبان وابنها شاكِن وزوجته بايشيشِك وابنته إيسولو المخطوبة منذ الطفولة إلى يرزان.
وباكرا، تتسلط على يرزان أحلام عديدة، أبرزها الحلم بأن يصبح عازف كمان منذ اكتشاف موهبته الموسيقية المذهلة، والحلم بالزواج من إيسولو التي تربطه بها علاقة حب رقيقة، والحلم باقتناء تلفاز، وأخيرا الحلم ببلوغ سن الرشد بسرعة من أجل تحقيق أحلامه.
أحلام بسيطة، ومع ذلك ستبقى خارج متناوله لأن كل شيء سينقلب يوما رأسا على عقب في حياته.
ففي قلب الفردوس المعزول الذي كان يعيش فيه، تقع “المنطقة المحظورة”، حيث تحصل أشياء مريبة ويرتفع دوي انفجارات مرعبة تخلف هزات وأعاصير وأمطارا غزيرة.
ومن وصف يرزان لها، نفهم أنها المنطقة التي كانت روسيا تقوم فيها بتجاربها النووية. ومع أن لا معنى لهذه الكلمات بالنسبة إلى طفل كان يعيش في عالمه الخاص وأحلامه، فإن ما يحصل في تلك المنطقة ستكون له نتائج خطيرة على حياته تعادل نتائج الأساطير التي كانت تقصها جدته عليه.
فخلال رحلة مدرسية، يكتشف الطفل يرزان ورفاقه بحيرة ظهرت إثر انفجار نووي. ومع أن والد إيسولو سيحذرهم من مخاطر الاقتراب منها، سيخلع يرزان ثيابه ويسبح في مياهها لكسب إعجاب حبيبته ورفاقه، وهو ما سيؤدي بسرعة إلى توقف نمو جسده.
في البداية، لن يكترث الطفل لهذه المسألة، لكن حين تتجاوز قامة إيسولو قامته وتفشل جميع الوصفات الطبية التقليدية والحديثة في شفائه، يعي المأزق الذي وقع فيه ويبدأ قلقه.
وتنقسم عملية السرد إلى ثلاثة أجزاء: في الجزء الأول نتعرف على طفولة يرزان السعيدة بين حكايات جدته وتعلمه العزف على آلتي الدومبرا والكمان، وتردده على المدرسة برفقة إيسولو، واكتشافه الراديو ثم التلفاز.
ثقافة الحياة
وفي الجزء الثاني -القاتم جدا- نكتشف نتائج تعرضه للإشعاعات النووية في البحيرة التي لن تقتصر على توقف نمو جسده، بل ستؤدي أيضا إلى إفلات إيسولو منه. أما الجزء الأخير فيعج بتطورات مثيرة وغير متوقعة ويعرف خاتمة سعيدة.
وفي بنيتها، تستحضر هذه الرواية بنية الحكاية لكن ذلك لا يفسر وحده قوتها التي تنبع خصوصا من المناخ السحري الذي يطغى عليها ويعود إلى مزج إسماعيلوف فيها عناصر الحكاية بعناصر تاريخية وأساطير تحضر غالبا على شكل أغنيات، ويتجلى من خلالها الخيال الجماعي للشعب الكزاخي وثقافته العريقة.
وتفتننا الرواية أيضا بسرد الكاتب الجزء الأكبر من قصتها على لسان الطفل يرزان، فنتأمل بعينيه الحياة في سهوب كزاخستان ونختبر بحساسيته المرهفة نتائج التجارب النووية الرهيبة على سكان هذه السهوب وبيئتهم الطبيعية.
ويسخر إسماعيلوف من تبرير موسكو لهذه التجارب بضرورة البقاء في سباق التسلح الدائر مع الأميركيين، عبر قول الجد بيبي دولي لوالد إيسولو المدافع عن الموقف الروسي “لا شيء تحت هذه السماء يبرر أي حرب”.
ولا شك أن رغبة الكاتب في الدفاع عن قيمة الحياة في وجه ثقافة الموت هي التي تفسر إدراجه مغامرات وقصصا طريفة كثيرة داخل روايته، وكتابتها بأسلوب شعري خلاب يوصل على أفضل وجه رسالتها.
______
*المصدر: الجزيرة.نت