*خليل قنديل
يتعامل العربي مع تاريخه الآني على اعتبار أنه بلا شهود، وهو بهذا المنحى في التعامل يقوم بخنق الشاهد المُلح على حياتنا، وهو الشاهد الطفل الذي يعيش بين ظهرانينا وهو يسدد آلام المشاهدة وفواتير المذابح الاجتماعية التي تشهدها الطفولة العربية هذه الأيام مع تفكك الجغرافيا العربية، وهرطقات الربيع العربي، وما يفرزه هذا الربيع من دمار.
إن الطفل الجالس في حضن أمه هو وحده من يستطيع أن يتلمس حالة الرعب عند الأم وهي تحتضن كومة الأولاد، مبتهلة أن لا يسقط البناء فوق رأسها كي يجدد عقد اليُتم في حياتها من جديد، وهو وحده من يستطيع أن يخمّن مستوى الرعب عند الجهة التي ظلت تحميه من كل شر، والطفل العربي وحده من يتلقى صفعة الخبر «العاجل» وهو يرى باحة بيتهم متلفزة إلى هذا الحد الموجع، وهو وحده من يشعر أن عليه إعادة تركيب أضلاع المشهد من جديد.
وفي مراجعة بسيطة لحال الطفل العربي سنلحظ أن هناك حالة من الغفلة في مراقبة حيثيات الطفل العربي والرعب الملقى على عاتق هذه الطفولة، وقسوة هذا الإهمال الذي يجعل الطفل العربي يحمل كل هذا الثقل المشهدي للحروب الصغيرة والكبيرة التي يشعل أوارها الكبار، ويطالبون الصغار بحراسة لهيبها حتى تنطفئ.
والطفل العربي الذي يتم اقتياده من رحم المستقبل كي يرمم كذبة العائلة ويمنحها تاريخها العصري، نعرف تماماً أننا نضحك على ذقنه، وهو يعي ذلك تحت وطأة طفولته المنهوبة بضجة القبائل، لكنه سرعان ما يدرك ضجر اللعبة ليصير شريكاً متآمراً على طفولته هو الآخر.
والطفل العربي يعرف أن ثمة قوى عدة، تتآمر على براءته كي ترميه في غياهب عزلته الطفولية القاسية، ولذلك يظل الأب العائلي يحضر إلى جانب الطفل كي يجعل الطفل يعاني دائماً ارتعاشة مرعبة في الروح وفي الكيان أيضاً.
نعم الطفل العربي يعيش ضمن دائرة تربوية تعاني الارتباك الدائم الذي قد يكون سببه الأم التي عاشت عمرها ترتجف من قسوة الأب وتتمنى رضاه، أو من تسلّط أمه وهي تسترجل على عائلة كاملة أو من هيمنة معلم يعيش عُقداً متورمة فرّغها للتو في فصله المدرسي.
والطفل العربي الذي تسلمناه ذات ولادة طارئة كبر واشتد عوده وسط قسوة تربوية حاولت ومنذ تنشقه أول هبة أوكسجين ان تنفخ فيه هرطقات الرجولة المبكرة، إذ كان عليه وسط هذا الإلحاح العائلي أن يودع طفولته ويبدأ حياته وهو كامل الرجولة.
وقد غاب عنا تماماً أننا وفي لحظة خدشنا لغشاء الطفولة أننا قمنا باحتلال أنظف منطقة في روح الإنسان وهي طفولته، حيث العناق الأول للموجودات، وحيث الدهشة الأولى من كل ما هو كائن.
إن طفولة كل واحد منّا تعرضت في وقت مبكر للقنص، وكل ما نفعله لاحقاً هو محاولة استرداد ما سُرق منا من دهشة طفولية مبكرة.
_______
*الإمارات اليوم