الشعراء العرب أسرى مرجعية إليوت


*محمد الأسعد


حين توفي الشاعر الإنجليزي-الأمريكي ت.س. إليوت في عام 1965 كنا على مقاعد الدرس في عمق عاصمة عربية، وكانت الصحافة الأدبية تكرر اسمه على أسماعنا وتضعه أمام أبصارنا في كل يوم تقريباً، كما هي عادتها حين تنبهر وتتاجر وتسوِّق، ويرفقه الشعراءُ العرب بآيات التبجيل، ويزهون بأن يكونوا من الذين تأثروا به، ويدأب النقاد على الإشادة بآرائه النقدية واقتطاف ما تيسر لهم منها هنا وهناك، بمناسبة وبلا مناسبة، جرياً على العادة الشائعة آنذاك أيضاً، أن يبدأ الكاتب العربي مقالته بمقولة أو عبارة قالها جهبذ من جهابذة الغرب، ويُستحسن أن يكون أنجلو ساكسونياً أو فرنسياً.
إذاً، كان «إليوت» مرجعاً لكمية تتزايد من الكتابات العربية، في النقد والشعر على حد سواء. ومما نتذكره جيداً أن د. محمد النويهي (1920-1980) بدأ كتابه «قضية الشعر الجديد (1964)» بنظريات «إليوت» في طبيعة الشعر والشاعر، قبل ذلك جرى الشعراء مجرى بدر شاكر السياب في الأربعينات، فذيلوا قصائدهم بإشارات إلى ما اقتبسوه منه.
بل مضى بعضهم إلى محاكاته وانتحال مشاعره وحدقتي عينيه على صفحات مجلة «شعر» البيروتية في الخمسينات، فاستعاروا أجواء «بوسطن» و«نيوانجلند»، وضباب «لندن» ووحل أزقتها وعتمة شوارعها الخلفية، وتوقفوا ينظرون إلى قشور القواقع على موائد مطاعمها، ويشعرون ببرودة غرف عوانسها.
كان هذا الشاعر الملكي في السياسة والمحافظ في الفلسفة، أسطورة بالنسبة للمثقف العربي، ولا نستطيع إحصاء عدد الذين أخذوه من الإنجليزية مباشرة، أو عدد الذين اعتمدوا على الترجمات المتتابعة فهم كثرة كاثرة.
تترجم دار مجلة «شعر» قصيدة «الأرض الخراب» (1958)، ودار المعارف القاهرية (1966)، وتعود إليه مجلة «شعر» مرة أخرى (1968)، ويقدم توفيق صايغ رباعياته التأملية الأربع في كتاب مع مقدمة ضافية تستهلك 27 صفحة إلى القاري العربي (1970)، ولا تتأخر مجلة الآداب الأجنبية السورية (1975)، ولا المؤسسة العربية للدراسات 1980). ويجد المثقف بين يديه مقالة الناقد الأمريكي «ف.ماثيسون» وعنوانها «مقالة في طبيعة الشعر» (1935)، وقد نقلها مترجمة إلى العربية د.
إحسان عباس (1920-2003) تحت عنوان «إليوت ناقداً وشاعراً» (1965)، وفي مصر تصل إليه «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» عن طريق د. شكري عياد من دون تاريخ لسنة النشر.
ويمكن أن يقال الأمر نفسه عن أعماله المسرحية، فتنشر مثلاً مسرحيته «جريمة قتل في الكاتدرائية» مترجمة في مصر ويعيد مترجمها نشرها في الكويت (1972).
* * *
الطريف أن الشعراء كانوا الأكثر لجوءاً إلى ظلال «إليوت» من دونسبب واضح.
فبعد مرور ما يقارب 100 عام على نشر إليوت لقصيدة حداثية، خرجت كما قيل على أقباء رومانسيات العصر الفكتوري، عنوانها «أغنية العاشق ج. ألفرد بروفروك»، يصادف الباحث العربي شعراء عرباً لجأوا إلى اقتطاف سطور من هذه القصيدة بالذات، كل حسب ذوقه وغايته.
وتجلى هذا بوضوح لدى صلاح عبد الصبور في قصيدته «لحن» من مجموعة «الناس في بلادي» (1957)، حيث أسند كيان قصيدته، بالإضافة إلى «بروفروك»، إلى ثلاث ركائز/‏‏‏قصائد أخرى شهيرة: «الرجال الجوف»، و«صورة سيدة» و«الأرض الخراب»، وجاء بهذه الخلطة:
«جارتي لستُ أميراً
لا ولستُ المضحك الممراح
في قصر الأمير
سأريك العجب المعجب
في شمس النهار
إنني خاو ومملوء بقش وغبار»
والملحوظ أنه حين أعاد نشر مجموعته هذه في عام 1972، أسقط السطر الأخير المنقول حرفياً عن «إليوت»، واحتفظ ببقية ما خلط من صور وأفكار.
ولجأ سعدي يوسف إلى اقتطاف سطور من «بروفروك» في قصيدة له عنوانها «قصيدة تركيبية» نشرت للمرة الأولى في مجلة الأقلام العراقية في سبتمبر 1972 كاملة، ثم ضمتها مجموعته «نهايات الشمال الأفريقي» (1972)، وهي السطور التالية:
«للنساء اللواتي يرحن ويغدين في حجرة يتحدثن عن ميكائيل أنجلو
للنساء اللواتي يطالعن أثوابهن، ويلبسن قبل المساء الكتب
أقدم وجهكِ يا طفلة ينصل الدمُ من وجهها في حديقة».
ويلجأ محمود درويش إلى الاستفادة من مطلع قصيدة «بروفروك» الدرامية فقط.
تقول «بروفروك»: «دعنا نمضي إذاً، أنت وأنا/‏‏‏ حين ينتشر المساء تحت السماء/‏‏‏ مثل مريض مخدر على طاولة/‏‏‏ دعنا نمضي عبر شوارع بعضها نصف مهجور..»، ويقول درويش في قصيدة «كان ينقصنا حاضر» من مجموعة «سرير الغريبة»:
لنذهب كما نحن..
سيدة حرة
وصديقاً وفياً
لنذهب معاً في طريقين مختلفين
لنذهب كما نحن متحدين
ومنفصلين ولا شيء يوجعنا
لإطلاق الحمام ولا البرد في اليدين
ولا الريح حول الكنيسة توجعنا».
ولنا على هذه المقتطفات ثلاث ملحوظات، فعبد الصبور الذي لا يوجد في قصيدته ما يبرر إضافة هذه الملتقطات، يمكن له ألا يكون مهرجاً، أو يصف نفسه بالخواء كما يشاء، من دون حاجة لاستعارة سطور من «إليوت»، ويمكن لسعدي يوسف أن يقدم وجه «انجيلا ديفز» وهو ينصل دماً، (ذاك الذي ألصق صورته الفوتوغرافية بعد سطوره مباشرة في أول طبعة للقصيدة وكتب تحتها عبارة وجه «أنجيل»، ومن هنا جاءت صفة «تركيبية»)، إلى نساء ثرثرات لاهيات من دون حاجة لهذه اللقطة المأخوذة من قصيدة «إليوت». محمود درويش هو الأذكى، فهو لم يأت بصورة يتعكز عليها من قصيدة «بروفروك» بل استفاد من المطلع الدرامي، لنذهب كما نحن، مع تغيير في مشاهد الطريق، وتحول إلى شاعر يبث شجنه الرومانسي، أي عكس ما كان يسعى إليه «إليوت»من تحديث في الموقف الفكري، أعني الوقوف بوجه أسى وشجن رومانسية الشعر الإنجليزي التقليدي.
* * *
المدهش أن هذا الزخم «الإليوتي» لم يرافقه زخم يوازيه في اصطناع دقائق أساليب «إليوت»، أو الاعتناء الدقيق بمذهبه، بل رافقه زخمٌ يكاد يكون مشوِّهاً اتصف بالقصور شعراً ونقداً.
وليس هناك أبلغ من الموقف النقدي الذي وقفه بألمعية د. إحسان عباس منذ عام 1965 حين قال في تقديمه لكتاب ف. ماثيسون الذي أشرنا إليه: «إن الأسس الصالحة لنا في مجال التأثر بإليوت قد أغفلت، وبيان ذلك أن إليوت الناقد المؤمن بقيمة التراث، الذاهب في شعره وجهة درامية، والمتحدث عن النزاهة النادرة في إحساس الشاعر بعصره، لم يؤثر في الشعر العربي المستحدث الذي يحاول أصحابه أن يجذّوا صلتهم بالموروث وهم غارقون في رومنطيقية ممرورة، مباينون لدقة الإحساس بالواقع من حولهم، مأخوذون بفكرة الوطأة الثقيلة التي تسحق الفرد في المدينة المعاصرة، فيما الواقع من حولهم أكثره ريفيّ يتطلب تطويراً وتثقيفاً وعلماً وخبزاً ودواءً، متألمون من انهيار الحضارة المعاصرة، وأمتهم تستشرف البناء، وتحاول النهوض وتريد أن تقيم لنفسها أسساً حضارية». فإذا كانت أهم هذه الجوانب في تجربة «إليوت» قد أهملت، فماذا أخذ المثقفون العرب من إليوت؟ ما أخذوه هو أنهم أحدثوا مفارقات عجيبة؛ فبدل أن يحتذوا رؤية هذا الشاعر للتراث على الأقل، جعلوه «تراثاً» لهم، أي جعلوه مرجعهم، وحاولوا باستخدام تعابيره ورؤيته الدينية والما ورائية تلمس العلاقة بينهم كشعراء وبين ثقافتهم القومية، وهذه مفارقة فكهة، لأن إليوت لم يطرح نفسه هكذا، بل قال حرفياً في تفسيره لعلاقة الشاعر بتراثه: «إن من علامات الشاعر الناضج ألا يختزن فقط الموروث الذي ظل معطلاً من قبل، بل أن يعيد جدلَ أكبر عدد ممكن من طاقات هذا الموروث المفككة». ويصف الحس التاريخي الذي لا يستطيع الشاعر أن يستمرّ شاعراً من دونه بعد سن الخامسة والعشرين بقوله: «إنه إدراكٌ لمضي الماضي وحضوره في الحاضر معاً. أن يكتب وقد تمثل جيله في مخ عظامه، وأن يحسّ، بالإضافة إلى ذلك، بأن الأدب الأوروبي منذ هوميروس، وأن أدب بلده كله في نطاق ذلك كله، لهما وجود واحد معاً وفي آن واحد معاً، وفي أنهما يؤلفان نظاماً مجتمعاً في آن واحد معاً». لو خرج مثقف عربي واحد، وحاول المحاكاة، وقال إن الحس التاريخي لدى الشاعر العربي يتضمن أن يكتب وقد تمثل جيله في مخ عظامه، وأن يحسّ بالإضافة إلى هذا بأن الأدب العربي منذ ملاحم «جلجامش» و«بعل» و«عنات» و«كتاب النشور» القبطي المسمى كتاب الموتى في الترجمات الغربية، وأن أدب بلده كله في نطاق هذا كله، لهما وجود واحدٌ معاً وفي آن واحد.. إلخ، لقلنا أن ها هنا استفادة ومثاقفة، ولكن حتى هذه المحاكاة لم تحدث، وبدلاً من ذلك شاعت لدينا دلالات مضللة للحس التاريخي، فقفز المثقفون إلى استلهام تاريخ عام غائم الملامح مستمد من ثقافات شرقية وغربية، وشاعت دلالة مضللة لمفهوم الإحساس بالعصر، حين تشرب هؤلاء إحساس فرد مثل «إليوت» بعصر إمبراطوريته الغارب، لا بعصرهم هم، وأساء هؤلاء فهم استخدام «إليوت» للأساطير والقصص والأغاني والمقتطفات الشعرية والروائية.
______
المصدر: الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *