خاص (ثقافات )
تشكّل مؤلفات الأديبة سهى نعجة حالة إبداعيّة خاصة، بعثت الحياة من خلالها في نوع من النثر الفنيّ الإبداعيّ، هو فنّ (التوقيعة الأدبيّة)، وكان لثورة الاتصالات الحديثة أثر مهمّ في ترسيخ هذا الفنّ، بفرضها أنواعاً من الكتابة تتسم بالعبارات القصيرة المختزلة لُغويّاً، تُتبادل عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ المختلفة، مثل: رسائل (الواتس آب)، أو التغريدات عبر (التويتر)، وغيرها. ويمثل عنوان كتابها الجديد “لا إكراه في الوصل” الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” واحدة من العبارات الإبيجراميّة التي حشدتها المؤلّفة في كتابها الأدبيّ الذي كان قد صدر عن الدار نفسها بعنوان “تناص”، متزامناً مع كتابها “جمر وخمر”.
وترى رئيسة قسم اللغة العربية في جامعة الشرق الأوسط الدكتورة جمانة السالم أن “التبصّر في توقيعات الكتاب الجديد يؤكد تبني الكاتبة رؤية خاصّة لثنائيّة الأنا/ المرأة، والآخر/ الرجل، تتسع أبعادها بمقدار التركيز والتكثيف اللذين تتصف بهما عباراتها في الكتاب.
وتتلخّص أبعاد تلك الرؤية بإصرار الكاتبة على تحديد هويّة الأنا/ المرأة، وعلى رفع درجة إحساسها بذاتها باتزان عاطفيّ مدروس، ودونما انفعال يُفضي لاتخاذ موقف عدائيّ من الآخر/ الرجل؛ فالعلاقة بينهما تكامليّة تقوم على مبدأ حاجة كلّ منهما للاكتمال بالآخر، وقد تجلى هذا في إهداء الكتاب حيث تقول:
“إلينا،
لنبقى ظامِئَين؛
نصلّي صلاة الجوى”
وتعلي نعجة من شأن الأنا/ المرأة في غير توقيعة أدبية/ أبيجرامية نحو قولها:
“إني موّال الأنس،
بنت القمح،
وقولها:
“تذكّر
مثلي،
لا يمتطي سلّم الرجاء”
لكنّها في الوقت نفسه تحدد موقفها من الرجل وتصرّح بحقيقة إحساسها تجاهه وبأهميّة دوره في حياتها كما في قولها:
“طفلة أنا
تبتهل لفجرك
وتصلّي للوزك المندَّر بالرحيق”
وقولها:
“يا سليل الغيم
أغثني بمطرك
ولا تصهلن الرحيل”.
وقولها:
“أحتاجك
تسرج وقدة أنثاي”
وقولها:
“دعاني ياسمين معناك
فلبّيت”
وتضيف “السالم”: “والملاحظ أنّ الكاتبة أفادت من الضمائر اللغوية الجنسويّة (ياء المتكلم/ أنا، وكاف المخاطب/ أنت) في التعبير عن أبعاد رؤيتها تلك، مستثمرة تكنيك المُعلن والمُضمر في أبنية تلك العبارات ومعانيها، بتوظيف حِرَفيٍّ للغة الجسد إيماءً وتصريحاً من جهة، وبتوظيف حسيًّ أنثويًّ أنويّ، كقولها:
” تلك الحمرة في الدحنونة
بعض لوني حتما”
ومن ثمّ، فقد أقامت الكاتبة نصوصها على تقنيات الكتابة النصيّة المتنوّعة نحو: المفارقة كما في قولها:
“حال أنا
وأنت المقام.”
والتناصّ ولاسيما التناص النحوي كما في قولها:
“مفردة دونك
معك
أنا صيغة منتهى الجموع”
وتراسل الحواسّ نحو قولها:
“شاحبة شوارع المدينة
تفتش عن عبير خطاك”
وبرأي الناقد عامر المغربي إن الأديبة اختارت النمط المحبب لديها من النصوص الأدبية الأبيغرامية ذات الحس الشعري بعدما أتحفتنا بما قدمته من أعمال سابقة (تناص) و(جمر وخمر) اللذين لقيا استحسان الشارع الثقافي، وتواصل مسيرتها الإبداعية بـ(لا إكراهَ في الوَصْل) الذي تعتمد فيه “سادنة الحرف” مواصلة التمسك بكينونة الأنثى الحسية والجسدية والعاطفية وعلى الإذعان للحب بكامل مشمشمه بصلابة الكلمة وعمق المعنى وفصاحة اللسان وبلاغة التعبير وفي إضفاء فن جديد للعبارة المرهفة.
تقول الأديبة على غلاف كتابها:
حتى إذا ما التَقَيْنا،
لفّنَا الغَمام
كأنّ طائرَ الشّوْق لم يَهْدلْ فينا
ذاتَ صَبْوة،
لا،
ولا حَوالَيْنا حَام”.
ويضيف المغربي:”وتتماوج كلماتها المستوحاة من بنات إبداعها فتستوحي عبر تكنيك التناص من القران الكريم تارة ومن الشعر والمثل تارة أخرى ولها أيضاً أذن طربية ويظهر ذلك جلي في قولها:
(جَلّ الذي سَوّى عَيْنَيْكَ حَقْلَ طيْر)، أو (حَنَانيْك ذيّاكَ الرَّحيق). ويكمن جمال النص بحس مرهف واحتراف ومزيج لذيذ من تحذير وتنبيه بقولها:
“وَحْدَكَ حينَ أجْمَعُه مَعِي
يَظَلُّ النّاتج
واحِداً…”
وتحترف الحرف: (كُلّ كَلِماتِ العِشْق ِمُلْكُ يميني).
وتحذّر:
(رَجُلٌ من قَشّ أنت،
فاحْتَذر؛
مُسْتَصغَر شَرَري”.
وتنبّه: (لُزُومِي لا يعْنِي تَعّدّيك).
من يقرأ نصوص هذا الكتاب سيجد أنه لا يستغرق وقتاً طويلاً، ولكن قراءته تمتد في الذاكرة فتصاب بدهشة المفارقة التي زخرت في نصوص الكتاب مما يدفع المتلقي إلى إعادة قراءة الكتاب غير مرة للتلذذ بجمالياته مبنى ومعنى.
ويبدو أن الأديبة كاهنة الحرف والمعنى كتبت كل مقطوعة على قصاصة ورق فجراً وخبأتها في جيبها، وعندما فاض الجيب أراحته في “لا إكراهَ في الوَصْل”.