حسن نصور
يعرض الكاتب العراقي «ابراهيم الحيدري» في إصداره الجديد «سوسيولوجيا العنف والإرهاب»، دار الساقي، (2015)، البنية التحتية لظاهرة العنف. نعني بالبنية التحتية مجالات هذه الظاهرة سوسيولوجيا وتعالقاتها كافة المتصلة بميادين تشكل الفرد الكائن ذاتياً وموضوعياً. الفرد هنا باعتباره، في النتيجة، الأداة التي تنتج العنف بمعزل عن توظيفه أو تجييره، نسقياً، داخل المجتمع لتدعيم السلطة، على اختلاف أشكالها، خطابية كانت، عُرفية أو مؤسساتية أو سوى ذلك، بطاقته الهائلة. تعسر الإحاطة الشاملة بمفهوم العنف وتمظهراته قديماً وحديثاً. إنه ظاهرة يكثر حولها الجدل في تاريخ الفكر، سيما جدليات المذاهب الفلسفية لناحية النظر إلى ما تصدر عنه تلك الظاهرة أو لناحية أصالتها في الذات البشرية. هذا الجدل هو جدلٌ سوف يظلّ يستولد حيواته من راهنية الظاهرة نفسها وحيويتها الدائمة وتلازمها الحثيث مع يوميات الكائن البشري. إنّها، ظاهرة جماعيّة وفردية، تتسم أحياناً بالكمون، لكنها ما تلبث أن تتفلت عشوائياً من مسارب تتصل، غالباً، بمساحات لاواعية عند البشر.
في الحديث عن ظاهرة العنف، لا يستطيع أيّ باحث إغفال تناولاته وتداولاته خطابياً في مجال عرض تاريخ الأفكار داخل ميادين الفكر السياسي والاجتماعي، أقله منذ توماس هوبز وجان لوك مروراً بفرويد ومدرسة فرنكفورت وصولاً إلى جان لاكان وميشال فوكو وهابرماس. هذه التداولات تؤسس مفاهيمياً، لإمكانية فهم حيويّ للظاهرة على أساس نظريّ متين، ما يسهل التفاعل والتعامل مع أنماط كثيرة يومية ومحايثة من العنف لا يخلو من آثارها وتبعاتها أي مجتمع حديث يتسم بالتعقيد البنيويّ. مجتمع قد يكون بالنتيجة مسيَّراً بالعنف بقدر ما هو واعٍ لإمكاناته البشرية الأصيلة (رغبات وميول وأهواء) أو لمسبَّباته الموضوعية إذ يمليها حال الاجتماع اقتصادياً وثقافياً وسياسياً.
وإلى ذلك، فإن السوسيولوجيا في الغالب هي ثابت رئيسيٌّ في دراسات من هذا النوع. نعني ميل معظم الآراء، ومنها دراسة الكاتب، إلى كون ميدان السوسيولوجيا هو الميدان المرجّح لفهم أشكال العنف ومعظم تمظهراته، إذ إن الكائن البشري بما هو فرد اجتماعي ذو «إرادة حرّة» عاقلة بالضرورة من جهة، وذو نوازع غرائزية قهرية من جهة أخرى، هو كائن يتعذّر فهم تصرفاته بمعزل عن فهم طرائق انشغال واستثمار إرادته ونوازعه في الجماعة أو الحيز العام. فعلى هذه الإرادة، بين انكماشها في أطوار بشرية معينة أو انفلاشها في أطوار أخرى، ينبني بالضرورة ويتعيّن شكل الفعل والسلطة الممارسَين في كونهما، شكلاً ومضموناً، نتاجاً لأوضاع هذه الإرادة الفردية داخل الجماعة. فمن كبتِها، تتولد أنظمة حكم بسمات واضحة تصير قابلة للدرس والفهم، ومن إطلاقها بحدود، تتولد أشكال أخرى من السلطة أيضاً. ولا يقتصر الأمر على هذا الشكل من السلطة أو تلك، بل يمتد الأمر إلى شبكة متراكبة من القيم المعيارية التي تنتج بدورها ثقافات، تكون مطبوعة، في العمق، بفعل التعامل مع هذه الإرادة.
في هذا الحيز، تحديداً، يصير العنف كظاهرة مفهوماً ومقدّراً في مجمل تولّداته، حتى ذلك العنف القديم البدائيّ الذي نعيد طرحه على الأفكار. تصير الاسطورة العنفية للحضارة (أديان متنوعة أو سرديات إثنية) حقلاً قابلاً للاحالة العلميّة على أنساق من السلوكات البشريّة النفسيّة مثلا، ويغدو العنف المنظّم المرهِب بما هو «إرهاب» اصطلاحيّ غائيّ، محدّداً وقابلاً للإحالة أيضاً بدوره إلى مرجعيات وجداول نظرية واضحة، كما تصير آليات تجاوز هذا العنف أو لجمه (مواثيق، لجان سلام وعقود اجتماعية) قادرة على تأمين حد معقول لتسيير وتلبية حاجات الاجتماع البشري في تثبيت معايير أخلاقية تحفظ التثاقف وتحاول بالقدر المستطاع تقليل آثار الظاهرة العنفية التصادمية. نعني آثارها الذي تعاكس روح ومقاصد وجود الإنسان على هذه الأرض.
السفير