الندم: هل على الأمم أن تتوب عن خطاياها؟


*د. حسن مدن


منذ نحو عقدين خاض المجريون نقاشاً حامياً حول ما إذا كان من حق الأجيال الجديدة أن تطلع عيانياً على ظروف التنكيل والتعذيب في السجون التي عرفتها بلادها فترة الاحتلال النازي أم لا. هناك من يرى ذلك ضرورياً من أجل العظة التاريخية، من أجل العبرة التي تجعل الأجيال الجديدة مصممة على ألا تعود الظروف التي كان فيها الإنسان يتعرض للحجز والتعذيب الجسدي لأن في رأسه فكرة أخرى غير تلك التي في رأس مَن هم في السلطة. وهناك من يستفضع الفكرة ويرى أنها مخيفة ولا تنطوي على رسالة تربوية أو تثقيفية، فهي فحسب تذكر بماضٍ دموي بشع ومخيف من الخير أن ينساه الناس، لا أن يعيدوا اجتراره.
ما فجَّر هذا النقاش هو قيام السلطة هناك بتحويل مقر الحزب النازي المجري الذي حكم البلاد فترة سيادة الفاشية في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية إلى متحف للتعذيب أطلق عليه «بيت الرعب». وهو متحف غريب من نوعه سواء في فكرته أو في مسماه أو في المواد التي يعرضها، وهي أدوات كانت قد استخدمت في تعذيب الآلاف من المجريين المناهضين للفاشية وبينهم رجال دين، ومناضلون اشتراكيون، وضباط في الجيش في سراديب ذلك المبنى. ويقال إن المقر ظل سجناً حتى في العهد الشيوعي الذي جاء بعد هزيمة النازية، وإليه أخذ للسجن المعارضون للنظام في حينه.
بعض النقاش الدائر في المجر الذي دار عن المجر في ذلك الوقت حول افتتاح هذا المتحف الغريب الرهيب اتخذ طابعاً سياسياً مباشراً، حين رأى معارضو الحزب الحاكم في المجر اليوم في افتتاحه شكلاً من أشكال الدعاية الانتخابية للحزب الذي كان حاكماً يومذاك، خاصة أنه افتتح والحملة الانتخابية كانت في أوجها، لأن المتحف لا يكتفي بتسليط الضوء على الجرائم البشعة التي ارتكبت في العهد النازي فحسب في ذلك السجن، وإنما للتذكير كذلك بأنه ظلَّ سجنا في العهد الشيوعي، وهو ما رأى فيه قادة الحزب الاشتراكي المعارض توظيفا انتخابيا في الحملة ضدهم. لكن بعض المؤرخين البعيدين عن الأهواء السياسية المباشرة عارضوا افتتاح المتحف لأنه يعيد إلى الأذهان ذكريات مؤلمة يمكن أن تساق لخدمة أغراض الدعاية السياسية الرخيصة.
لكن المتحمسين لفكرة المتحف لديهم رأي آخر، إذ يرون أن مثل هذا المتحف يلعب دوراً مهماً في معالجة تأثيرات الماضي، التي لها نفوذ على الحاضر، لأنه يجعل الضحايا يشعرون بأنهم قد حصلوا أخيرا على اعتراف بحجم ما تعرضوا له من عذابات خلال تلك الفترة، كما أنه يوفر فسحة أمام كل من ارتكب فظاعة للعودة إلى نفسه والشعور بالندم لما اقترف من خطايا.
نستحضر هذا النقاش الذي دار في بلد أوروبي صغير وبعيد عنا، لأنه يسلّط الضوء على قضية أخلاقية، على قدر كبير من الأهمية، قبل أن تكون قضية سياسية. وهي علاقة الأمة، أي أمة، بماضيها، فما في ذلك ماضيها القريب. وتحضرني في هذا السياق قصة فيلم «الندم» أو «التوبة» الذي يتناول فيه المخرج الجورجي تنغيز أبولادزة، يوم كانت جورجيا لا تزال في عداد جمهوريات الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، سنوات التنكيل الستاليني في ثلاثينات القرن العشرين، والتي لم يسلم منها أقرب المقربين للزعيم نفسه. وجورجيا كما هو معروف، هي مسقط رأس ستالين، فهل أراد المخرج إعلان البراءة باسم شعبه من ممارسات التنكيل هذه، والاعتذار عنها، وإبقاء ذكرى الضحايا حيّة؟
عنوان ذاك الفيلم كان «التوبة»، وفكرته ليست بعيدة عن فكرة المتحف المجري الذي يدور النقاش حوله، إنها تروي حكاية فنان تشكيلي يلاحق هو وزوجته من قبل أجهزة الأمن في الثلاثينات من القرن العشرين، وهي الفترة التي أطبق فيها ستالين على السلطة بكل ما عُرف عنه من جبروت، وكان الداعي لملاحقة هذا الفنان هو معارضته لتدمير إحدى الكنائس الشهيرة، ولم تكن بواعثه دينية فحسب وإنما فنية أيضا لأنه رأى في تلك الكاتدرائية تحفة فنية نفيسة كان يجب الحفاظ عليها كذاكرة. والفظيع في الفيلم هو ذلك التصوير الذي يحبس الأنفاس للملاحقة الأمنية التي كان يقوم بها الديكتاتور الذي حرص المخرج على أن تجمع ملامحه بين شخصية ستالين وبيريه مسؤول المخابرات في عهده وهتلر والطاغية التشيلي بينوشيه في نوعٍ من إسقاط الحاضر على الماضي.
اختار المخرج لفيلمه عنوان «التوبة» ليدفعنا للتفكير: هل يجوز لأمة أن تعلن توبتها عن ماضيها. هل في التوبة نوع من التطهر والدعوة إلى الصفح، أم أنها دعوة لاستحضار رهبة الماضي وبشاعته إكراما للضحايا ومنعاً لتكرار المآسي؟
من عادة القتلة والجلادين والمتورطين في أعمال التعذيب أن ينفوا ما اقترفته أياديهم من جرائم حينما يقعون بعد زمن في أيدي العدالة، ويطالبون بإسقاط العقوبة ضدهم بحكم التقادم. من النادر أن يعترف جلاد أمام محكمة بأنه كان مجرماً. لكن الجنرال الفرنسي بول أوساريس الذي كان قد تورط في أعمال تعذيب وتنكيل وقتل في الجزائر فترة الاحتلال الفرنسي لهذا البلد، قام بما لم يقم به أحد حين أصدر كتاباً منذ سنوات اعترف فيه بأنه شارك في عمليات تعذيب وقتل المناضلين الجزائريين، وتضمن كتاب «العمليات الخاصة في الجزائر 1955-1957» معلومات مثيرة عن دوره الشخصي في قتل العربي بن مهيدي أحد قادة جبهة التحرير الوطني، حيث قال إنه قام بشنقه بمساعدة جنوده، وأنهم جعلوا الأمر يبدو كحادث انتحار، وحين تأكدوا من أنه مات، أمر الجنرال بنقله إلى المستشفى.
صدور الكتاب أثار ردود فعل واسعة داخل فرنسا نفسها، حين استهجنت هيئات وشخصيات عديدة هذا التلذذ في الاعتراف بجرائم القتل، وطالبت بمحاكمة الجنرال أوساريس، لكن قانوناً بالعفو عما ارتكب من جرائم حرب في معركة استقلال الجزائر صدر في فرنسا عام 1968، حال دون النجاح في حملة الدعوة لمحاكمته، غير أن هذه الهيئات والشخصيات استطاعت النفاذ من نصوص قانون آخر يحرم تبرير جرائم الحرب، للمطالبة بتقديم الجنرال للمحاكمة نظراً لتبريره المقزز لجرائم التعذيب التي ارتكبها، ورفضه الاعتذار عما وصفه ممارسات وقعت في مناخ كانت تسوده «قيم أخلاقية تختلف عن القيم السائدة الآن»، وأن «التعذيب يكون له في بعض الأحيان ما يبرره».
وفضلا عن قتله للعربي بن مهيدي فإن الجنرال أوساريس اعترف بأنه شارك شخصياً في تعذيب وقتل أربعة وعشرين سجيناً جزائرياً، وقال إن تلك الممارسات حظيت بموافقة القيادة الفرنسية على أعلى المستويات نظراً لما وصفه «بالحاجة الملحة لاستخلاص المعلومات من العدو»، وقال إنه لو وقع أسامة بن لادن في يده فإنه لن يتردد في تعذيبه أو قتله مثلما كان قد فعل مع ابن مهيدي.
قضية هذا الجنرال تثير، هي الأخرى، القضية الأخلاقية الحساسة التي أثارها المتحف المجري، ولكن في سياقٍ مختلف بعض الشيء، فالنقاش هنا لا يدور حول قضية داخلية تخص الفرنسيين وحدهم، وإنما تخص علاقتهم بشعب آخر، هو الشعب الجزائري، وما ينطبق عليه ينطبق على شعوب أخرى استعمرت فرنسا بلدانها.
هذه القضية، والتي لم يجب عليها الضمير الغربي بعد تكمن في مسؤولية جنرالاته وضباطه وقادة فرقه العسكرية عن الجرائم التي ارتكبوها ضد شعوب ومناضلي بلدان المستعمرات، فإلى أي مدى يستطيع هذا الغرب إعلان براءته من تلك الجرائم بحجة أن قيماً أخلاقية أخرى كانت سائدة في حينه؟ بل هل يصح الحديث عن أن قيم أخلاقية قابلة للقسمة والتجزئة والتغير من زمن إلى آخر؟ أليست هناك قيم مطلقة تتصل بالنزاهة والشرف وكرامة الإنسان وعدم جواز الاعتداء عليه؟ فما بالنا إذا كان الأمر يتصل بمناضلين من أجل الحرية والعدالة والاستقلال لبلدانهم وشعوبهم على نحو ما جرى مع مناضلي الجزائر وفيتنام وفلسطين وسواها؟
طبعاً كان بالإمكان أن يجري النظر إلى هذا الكتاب بصورة مختلفة لو أن مؤلفه قام بتأليفه لإعلان ندمه على ما اقترفت يداه، وأن يعلن الاعتذار لذكرى ضحاياه، والتوبة عما فعل، لكنه، على العكس من ذلك، تجرأ وهو على أعتاب التسعين من عمره بنشر الكتاب على الملأ ليعترف جهاراً نهاراً بالجرائم التي اقترفها هو شخصياً وآخرون سواه من جنرالات فرنسا لا بلغة تبريرية فحسب، وإنما تنطوي على شيء من الفخر بتلك الجرائم.
وهذا ما يلفت النظر إلى ذلك الكم الهائل من الجرائم المسكون عنها، والتي لم يجرؤ مرتكبوها على نشر كتب أو مقالات يعترفون فيها بما ارتكبوه، أو أن أسرار هذه الجرائم قد دفنت بدفن الجلادين والضحايا فيها، ولم يعد بوسع أحد أن يقرأ عنها أو يعرف، فضلاً عن أن يحاسب ويُقاضى على نحو ما فعله أولئك الشرفاء من الرجال والنساء في فرنسا الذين نجحوا في أن يمثل الجنرال أوساريس أمام المحكمة.
هل لدى الضمير الغربي الشجاعة في أن يعترف بمحنته، في أن يعترف بأنه لم يمارس فعل الضمير وواجبه الأخلاقي، وهل لدى هذا الضمير ما هو كافٍ من الشجاعة لأن يعلن عن ندمه وتوبته أمام الملأ، كي يضفي شيئاً من المصداقية على إعلانه بالانحياز لقيمٍ يعدها ثوابت كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟!
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *