لصوصيّة النقد العربي


*خليل قنديل



منذ منتصف القرن الثالث الهجري حتى نهاية القرن الرابع الهجري، عاشت الثقافة العربية بمعطياتها الأساسية، احتكاكها الذي كان يصل إلى حد الاشتعال مع الثقافة الفارسية ومع الثقافة اليونانية، واستطاعت هذه الثقافة أن تؤكد عافية لبناتها الأساسية، وتندغم بالمجمل الحضاري السائد، آنذاك. وأن تقدم إضافاتها في كل المجالات المعرفية والعلمية والثقافية الأدبية.
ومن يرصد العطاء النقدي الأدبي في تلك المرحلة لابد أن يدرك حجم العمق المعرفي النقدي الذي قدمته بعض الرموز الابداعية العربية في تلك المرحلة.
فالناقد العربي المتولد وسط هذا الانصهار الحضاري الشامل بين مجمل الحضارات الانسانية كان حفيداً لنقاد كانوا يسيدون الشاعر على قبيلته، وكانوا يواظبون على حضور أسواق عكاظ الشعرية السنوية لانتخاب الشاعر «الفحل»، كما كانوا يطلقون عليه. وهذا الناقد هو حفيد النقاد الذين اختاروا المعلقات السبع التي كانت تعلق على أستار الكعبة لتأخذ مكانتها المندغمة مع المكان المقدس.
وفي العودة الى منتجات بعض هؤلاء الأحفاد، مثل ما قدم الجاحظ في مؤلفاته التي بلغ عددها 260 مؤلفاً نقدياً وابداعياً ومعرفياً، أو العودة الى مؤلفات الجرجاني، خصوصاً في كتابه النقدي ذائع الصيت «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، لابد أن يدرك حجم الركيزة النقدية التاريخية التي أرسى لها هؤلاء، لتكون بمثابة النقطة الأساس لتشكيل نظرية نقدية شعرية وأدبية مستقلة يقوم بتخليقها الأحفاد النقاد لاحقاً. كان يمكن لها ان تشكل المرجع الأساس للحركة النقدية عالمياً.
لكن حادثة القطع المعرفي التي عاشها العربي في غير مفصل تاريخي، إضافة الى القرون الأربعة التي تولى فيها أمر العرب أتراك الدولة العثمانية عموماً، استطاعت أن تكبل القوى الخلاقة عند هذا الحفيد العربي، لتلقيه في منطقة أقل ما يقال عنها إنها منطقة الكساح أو منطقة اليتم المعرفي، الى درجة التوسل.
وهكذا ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بدأ الفكر العربي يبدو مرتبكاً امام الإغداق الغربي المعرفي، وأمام النظريات الابداعية المتلاحقة التي كان يخلقها هذا الغرب وهو في أوج حضوره الاستعماري والمعرفي. وكان لابد للفكر العربي ان ينقسم الى فسطاطين، الأول هو العودة للتخندق في المنتج الارثي الاول الذي لم يعد صالحاً للاستعمال، والفسطاط الثاني هو التبعية الكاملة للمنتج المعرفي الغربي. ومن يرصد النشوء النقدي العربي الحديث سيلحظ أن الناقد العربي فشل تماماً في توليد نظرية في النقد الأدبي، خاصة به وبالمعطى الوراثي الخاص به، بل ظلّ يعيش على ما تقدمه النظرية الغربية له من فتات. والأطرف من هذا كله أن العديد من النقاد العرب يصلون الى النظرية النقدية، ولأسباب تتعلق بالترجمة أو بسبب العماء القرائي، على اعتبار ان هذه النظرية قد بدأ الغرب التعامل معها للتو، بينما يكون في الواقع قد غادرها منذ أمد بعيد، وهذا يعني أن نقدنا الأدبي يتعامل مع النظرية النقدية الغربية بأثر رجعي.
إن مؤتمراتنا البحثية وندواتنا النقدية التي تستضيفها عواصمنا العربية هي بحاجة حقيقية الى إعادة النظر بالمعطى النقدي العربي السائد، وإلقاء القبض عليه بتهمة الاستيلاء على نظريات نقدية أقل ما يقال عنها إنها ليست له.
_______
*المصدر: الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *