*عثمان حسن
في معالجة موضوع أزمة الشعر التي نعيشها اليوم، وهي بالقطع ليست مفصولة عن أزمة الأدب بوجه عام، يجب التفريق ما بين تناقص جماهيرية الشعر، وما بين تراجع الشاعر نفسه، والمقصود هنا، ما يقدم في المنجز الشعري من منجز بصرف النظر عن جماهيرية هذا الشاعر من ذاك.
الموضوع هنا، جدّ إشكالي، وإن كان بعض النقاد والمثقفين بوجه عام، قد نعوا الشعر بدعاوى سطوع نجم الرواية العربية، فإن شيئاً حقيقياً على الأرض لم يتبلور لمصلحة الرواية، سوى تلك ال «بروبوجندا» الإعلامية التي روجت لهذا الجنس الأدبي تزامناً مع سطوع نجم الرواية العالمية، وتخصيص العديد من الجوائز لها، وهكذا عشنا، وما زلنا، طوراً حرجاً من الترويج للرواية، في مقابل ترويج أقل لفن الشعر، مع استمرار هذين الجنسين في استمالة المؤتمرات والمهرجانات والملتقيات الثقافية في العالم العربي حتى يومنا هذا.
من المهم، التنوية هنا، إلى أن مؤشرات تراجع الشعر، هي مؤشرات ليست عربية فقط، وهي ليست أيضاً جديدة، ولنتذكر كيف أن «أفلاطون» وهو يعكف على بناء مدينته الفاضلة، قد دحر الشعراء من هذه المدينة، باعتبار ما يقومون به ليس أكثر من هرطقة تنافي العقل والحكمة، وأنهم يجدفون خارج الواقع، وأن في وجودهم خطراً على المجتمع.
رغم ذلك، بل رغم هذا التاريخ الذي لا يسر مع الشعر والشعراء، فإنّ أحداً -حتى هذه اللحظة التي نعيش- لا يستطيع أن يدّعي برهان سقوط أو تراجع الشعر، كما أن الشعر وباعتباره كان على الدوام ملازماً للتاريخ العربي، كان أحد أعمدة التطور الفكري، وربما الأقرب في مقارنته مع الفنون الأخرى، إلى هموم الإنسان العربي، ونقل ما يعانيه من قضايا إنسانية ووجودية وروحية، فما زال مستمراً بقوة هذا التاريخ، وقوة هذا الدور الذي لعبه، حين كان فناً وحيداً وسائداً في عصور التراث والتاريخ الحضاري.
ما الذي يجعل سؤال الشعر ملحاً إلى هذه الدرجة؟ وما الذي يجعله حاضراً في صورة المشهد الثقافي، حتى مع خفوت جماهيريته على نحو ما تروجه وسائل الإعلام؟
الإجابة عن هذا السؤال، موجودة في ثنايا تصريحات كثيرة للنقاد، وهو الذي يعني في ما يعنيه استحالة زوال الشعر، كونه فناً عربياً وكونياً، يقول الناقد والمترجم المغربي رشيد بنحدو «إن الشعر أبداً، ليس آيلاً إلى زوال، فلا تزال له، عربياً وكونياً، الحظوة والقيمة اللتان ظل يزهو بهما عن جدارة واستحقاق، من بين فنون القول وأجناس الأدب».
المشكلة التي يعانيها الشعر اليوم، ليست مفصولة عن مشكلة وقضايا الأدب، وبعض النقاد العرب وصفوا تلك المشكلة بكونها «مفتعلة»، وتعود إلى أسباب ثلاثة: أولها، إنسان اليوم الذي يعيش تحت وطأة حياة معيشية قاسية، وفقدانه آليات التواصل مع أشكال الثقافة المختلفة ومنها الشعر، وثانياً، الكتابات الرديئة التي تبعث في القارئ النفور، وثالثاً العلاقة العامة بين الشعر والجمهور، تلك التي تتعلق بعملية تلقي النص الشعري.
ما سبقت الإشارة إليه جاء على لسان كثيرين، كما ألمح إليه د. بنحدو بقوله «الأدب يعيش حضارة الاستهلاك والاستعجال والرقمنة، وتأليه كل مظاهر الحياة، فالناس منشغلون عنه وعن كلامه الغريب بأمور أكثر جدوى وجدية وإلحاحية، ما يجعل وجوده في المجتمع غير ذي فائدة».
غير أن للمشكلة جذراً عالمياً أيضاً، لا سيما في المفصل الذي يتصل بعلاقة الشعر مع القارئ، فها هو إدمون هومو يؤكد هذه العلاقة بتحفيز الشاعر على تجديد علاقته مع القارئ، وتأكيد الثقة بين الطرفين، بقوله «لقد استسلم الشعراء أنفسهم إلى السهولة والتكلف والسطحية، الأمر الذي حرم قصائدهم من صدق التجربة وحرارة الانفعال باعتبارهما شرطين لازمين وكافيين لاستمالة القارئ الافتراضي إليهما».
ويشاطره في هذا الاتجاه ميشيل مانويل بقوله «إن الحل لكي تعود الثقة بين القارئ والشاعر، هو أن يصبح للشعر ما يكفي من الشفافية والوضوح ليغري أي واحد كان بقراءته».
هي أزمة متشعبة، لا تعني بأي حال من الأحوال تراجع الشعر عن تقديم منجزه وتوكيد صلته مع العالم الذي يعيش فيه.
_____
*الخليج الثقافي