*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
أنا الآن في مطار شارل ديغول. جئت مبكراً لكي أتحرر من الخوف الذي يلازمني كلما سافرت: الخوف من التأخر عن موعد إقلاع الطائرة.
فكرت بالمجيء وحدي إلى المطار، غير أن هدى أيوب، المرأة اللبنانية المقيمة في باريس، التي استضافتني باسم المدرسة العليا للمعلمين، أصرت على مرافقتي هي وشخص فرنسي اسمه إيلي، إلى المطار. حسناً فعلتْ، لأنني كنت سأشعر بالتوتر والقلق بسبب اتساع هذا المطار، ولأنني ضللت طريقي داخله في مرة سابقة. (سأخبرها ونحن جالسون في إحدى صالات المطار، أنني تجنبت مهاتفة أهلي طوال الأسبوع الماضي، خوفاً من خبر سيء يضطرني إلى قطع زيارتي لباريس. في ما بعد ستخبرني أنها ذكرت ذلك لطلابها الذين تأثروا لذلك).
أمضيت في باريس أسبوعاً.
جاء إلى الأسبوع الثقافي كل من: محمود الريماوي، زهير أبو شايب، وزكريا محمد. قبلنا جاء محمود درويش الذي قرأ قصائده في قاعة المدرسة. قرأت أنا والريماوي قصصاً قصيرة. قرأ زكريا وزهير قصائد.
تعرفت إلى عدد من الكتاب العرب المقيمين في باريس، بينهم العراقي كاظم جهاد والسوري صبحي حديدي، اللذان لطالما قرأت لهما في مجلة الكرمل الفلسطينية. التقيت السورية رانيا سمارة الأستاذة في جامعة السوربون، التي ترجمت بعض قصصي القصيرة إلى اللغة الفرنسية. التقيت طالبة الدراسات العليا في إحدى جامعات باريس، اللبنانية فاطمة الخواجا، التي تعرفت إليها أثناء زيارة قامت بها إلى فلسطين قبل سنة.
هاتفت ابن العم د. صالح شقير الذي يقيم في بلدة تبعد أربعين كيلومتراً من باريس، تبادلنا حديثاً متشابكاً حول الأهل والأحوال. أخبرته أنني لا أستطيع زيارته في بيته، بسبب انشغالي بالأسبوع الثقافي.
شعرت بالعزاء وأنا ألحظ مدى اهتمام الطلبة الفرنسيين بالأدب. في بلادي لا يهتم بالأدب إلا قلة قليلة من الناس.
سكنت في شقة صغيرة مكونة من غرفة ومطبخ وحمام، لطالب اسمه إيمانويل لورين. سلمني مفتاح الشقة وذهب للإقامة في بيت والديه. كانت الشقة هادئة تماماً. لا ضجيج ولا ضوضاء. ينفتح بابها على ممر، تنتشر من حوله أبواب عديدة لشقق متجاورة، ولها في الجهة المقابلة شرفة تطل على مساحة مكشوفة، في طرفها الآخر بنايات قديمة، يطل من نوافذها في بعض الأحيان نساء ورجال مشغولون بأحوالهم. (تخلو الشقة من جهاز تلفاز. هذا مريح للأعصاب. ثمة مذياع ومسجل وأشرطة موسيقى، وكتب عن الفن التشكيلي، مزودة بصور ملونة للوحات فنية لكبار الفنانين). كنت أذهب إلى سوق للفواكه والخضروات والأسماك واللحوم، في نهاية الشارع الذي تقع فيه الشقة. أشتري ما أحتاجه من مواد غذائية وأعود. ألتقي بالصدفة امرأتين عجوزين تقيمان في الشقة المجاورة، نتبادل التحية وبعض الابتسامات ثم نفترق. أجهّز لنفسي طعاماً بسيطاً في المطبخ. أشعر باستمتاع كما لو أنني أتناول الطعام في مطعم ممتاز.
تجولت في باريس كثيراً. قطعت مسافات طويلة وأنا أمشي من دون كلل. (تهت مرة بعد الظهيرة، ولم أتمكن من معرفة الطريق إلى الشقة. أوقفت رجلاً ماشياً على الرصيف ورحت ألقي عليه السؤال تلو السؤال، الرجل لا يعرف الانجليزية. استعان على الفور بامرأة شابة في الثلاثين من عمرها أو أكثر قليلاً، كانت تعبر الرصيف. شرحت لها ما أريد. قالت بانجليزية متقنة: تعال معي. سرت إلى جوارها. كانت تمشي بخطوات أنيقة حازمة. حذاؤها المنسجم مع فستانها الأسود المنسدل على بشرة بيضاء، يضرب صفحة الرصيف بمثابرة واعتداد. أدركت أنها ماضية إلى شأن خاص بها، يستأهل مثل هذا المشي المثابر. لم نتبادل سوى القليل من الكلمات. انتظرنا في موقف الحافلات. جاءت حافلة وصعدنا إليها. بعد عشر دقائق هبطت المرأة من الحافلة وهبطت خلفها. دلتني على الطريق. شكرتها ومضت مبتعدة) في الليل، كنت أعود ماشياً من المدرسة العليا، حيث تجري الأنشطة الثقافية والندوات، تستغرق الطريق إلى الشقة التي أقيم فيها ساعة أو أقل قليلاً. المشي في الليل مريح للأعصاب، أجتاز الشوارع العريضة والجسر الذي يمر من تحته نهر السين، والبنايات الضخمة الغاطسة في الصمت، بعد يوم صاخب من الحركة والنشاط. كان الطقس دافئاً ربيعياً في الأيام الأربعة الأولى، ثم هطل المطر على فترات متقطعة في الأيام التالية. كنت أهتدي إلى موقع الشقة من البوابة التاريخية القريبة منها، بوابة السان مارتين. كان محمود الريماوي وزهير أبو شايب، يسكنان في شقة للطلبة في شارع ضيق غير بعيد من البوابة إياها. تنتشر في البيوت المصطفة على جانبي هذا الشارع بيوت بائسة تقيم فيها نسوة يمتهنّ الدعارة. يراهن المرء وهن واقفات على مقربة من أبواب بيوتهن، بملابس لا تستر إلا أجزاء يسيرة من أجسادهن.
أرتاد أماكن عدة: برج المونبارناس. دلتني عليه فاطمة. دعوتها لتناول طعام العشاء في مطعم على قمة البرج. جلسنا إلى مائدة لصق الزجاج المطل على قطاع واسع من باريس. قدمت لنا الخدمة على المائدة فتاة مغربية. كنا نتبادل معها حديثاً عابراً كلما اقتربت منا. غادرنا المطعم. غادرت فاطمة إلى بيتها في الحافلة، وعدت أنا إلى الشقة بالمترو.
برج إيفيل. صعدت إلى أعلى موقع فيه. متحف بيكاسو. دلتني عليه فتاة ألمانية تتلقى دروسها في باريس. التقيتها في ساحة متحف اللوفر. استعارت مني خريطة باريس. قالت إنها تبحث عن متحف بيكاسو. ذهبنا معاً إلى المتحف. تفرجت على رسوم لم أرها من قبل لهذا الرسام العظيم. غادرت الفتاة المتحف قبلي بنصف ساعة تقريباً. غادرت المتحف بعدها وتهت في الطريق.
متحف دورسيه مرة أخرى. أشعر بشيء من الرضى وأنا أتنقل من جناح إلى آخر فيه، أتمعن وأقارن بين ألوان هذا الرسام أو ذاك. (جرّبت الرسم مراراً، واكتشفت أنني لا أملك أية موهبة فيه. اكتفيت بأن أكون متذوقاً لما يبدعه الرسامون) متحف اللوفر. أصبح بنداً ثابتاً في برنامجي لكل رحلة. دار الأوبرا. تجولت في أنحاء المبنى الكبير، شاهدت عدداً من التماثيل وبعض الرسوم والزخارف التي تملأ جدران المبنى وسقوفه. أخيراً، في الطريق إلى الشقة، في شارع رئيس في باريس، دفعني الفضول إلى دخول نادٍ له بوابة على الرصيف. حاولت أن أشتري تذكرة من الرجل الواقف في مدخل النادي. قال لي ما معناه: حاولْ أن تلقي نظرة قبل أن تشتري تذكرة. دخلت وألقيت نظرة. آه، كم كان المشهد يابساً! لأول مرة أرى حلبة للرقص تقتصر على المتقدمين والمتقدمات في السن. غادرت النادي في مكابرة مقصودة، كما لو أنني لست متقدماً في السن!
أجلس الآن في مطعم في إحدى صالات المطار في انتظار الدخول إلى قاعة استقبال المسافرين. ثمة امرأة جالسة في المطعم، تحتضن كلبها الصغير. تأكل ساندويشاً، تطعم الكلب من الساندويش نفسه، ثم تسقيه الماء من كأس. يبدو الكلب مغتبطاً بهذه المعاملة الرقيقة. أنشغل عن الكلب وصاحبته بالحركة التي لا تهدأ من حولي. ثمة خلق كثيرون يأتون ويذهبون.
أمضيت وقتاً غير قليل وأنا أمارس هوايتي المفضلة في تأمل الناس وهم يتحركون في كل اتجاه، ثم نهضت متجهاً مع غيري من المسافرين نحو الطائرة. كان ذلك بعد ظهر الأحد (8/4/2001). وقعت في مشكلة لم أتوقعها، لأنني تأخرت قليلاً عن الركاب الذين كانوا يتقدمون نحو موقع، لا يتم رفع أية لافتة عنده، تشير إلى رحلة الطائرة المتوجهة إلى تل أبيب، من باب الحفاظ على السرية وعلى أمن الطائرة. لاحظت شخصاً يراقبني من مسافة ما. اعتقدت أنه من رجال الأمن الإسرائيليين. تعقبني بعض الوقت. ابتعدت عنه ولم أعرف أين أتجه. ذهبت إلى شرطي واقف عند إحدى بوابات المطار. طلب مني أن أخرج في اتجاه لم أدرك أين يأخذني إلا بعد لحظات. وجدت نفسي في قاعة الخارجين من المطار، الذاهبين إلى باريس. عدت إليه محاولاً أن أشرح له أنني مغادر إلى تل أبيب. لم يسمح لي بالدخول. (علي أن أدفع ثمناً لأمن إسرائيل، بسبب أو بغير سبب!) ذهبت إلى مكتب شركة الطيران. شرحت الأمر لموظفة هناك. أجرت اتصالاتها وأعادتني إلى قاعة المغادرين. بحثت عن الطابور الذي ينتظر الطائرة المغادرة إلى تل أبيب. عثرتُ عليه. خضعتُ مثلما خضع غيري لإجراءات تفتيش في قاعة سفلية صغيرة.
في الطائرة، تذكرت رغبتي في التعرف إلى باريس من الألف إلى الياء، أو إلى السين. اكتشفت أن هذا الأمر يحتاج إلى رحلات عديدة. أيقنت أنني لم أعرف من باريس إلا أقل القليل.
_______
*روائي وقاص من فلسطين.