دحبور: القصيدة جاسوس يكشف أسرار الشاعر


*حوار: توفيق عابد


يستعرض الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في هذا الحوار محطات متباينة من مشواره الشعري وارتباطه بالهم الوطني، قائلا إن القصيدة مدخل لشخصية صاحبها، وأنها الجاسوس الأمين الذي يكشف أسرار الشاعر الخبيئة.


وينتصر دحبور في نتاجه الأدبي ومواقفه للفقراء والكادحين، ويعد أحد أعمدة الحركة الثقافية الفلسطينية الراهنة والشعر المقاوم، وقد حمل البندقية فدائيا، ومن دواوينه “مكان الولد الفلسطيني” و”العودة إلى كربلاء” و”شهادة بالأصابع الخمسة” و”طائر الوحدات” و”هكذا بيروت”.


لكل شاعر لغة شعرية تميزه، فما الذي يميزك عن جيلك، وخاصة الراحل محمود درويش والدكتور عز الدين المناصرة؟
إذا تطلب الأمر مقاربة مع جيلي الشعري، فقد حاولت جهدي أن يكون عندي ترابط بين الذاتي والموضوعي، وما أكتبه ليس موضوعات شعرية عن الوطن والقضايا العامة وحسب، بل هو بوح تلقائي وعفوي، ودليل على ارتباط بالمكان والأفق الذي أُطلُّ منه على العالم.
أول قصيدة لك كانت “نحن أبناء المجيدة.. نحن من حيفا الشهيدة”، فما تأثير المكان على قصائدك، خاصة أنك تنقلت في مخيمات الشتات؟
من المفارقات البدهية أنني عندما بدأت أكتب فتحت عيوني على النكبة وفتحت النار عليها، وسرعان ما أصبح السؤال الوطني سؤالا وجوديا ينتظم بأي فلسطيني طبيعي، فقد ولدت في الثاني من أبريل/نيسان 1946، وفي عيد ميلادي الثاني لم يشعل لي أهلي شمعتين بل حملوني وهاجروا من حيفا إلى الشتات.
ولعل القدر الفلسطيني أن يكون تعدد الأمكنة بمثابة هوية تفصيلية للشخصية. وأذكر بشكل ضبابي منذ الطفولة كيف تخيلت حيفا مكانا مرتفعا أرنو إليه، وربما كان ذلك بتأثير حكايات الأم التي صنعت من حيفا فردوسا استثنائيا خاصا.
ثم بدأ الوعي يتدخل في المعادلة، فأصبحت المسيرة الوجودية مزيجا من شجن وطني ومواكبة يومية لأسئلة الحياة في قصائدي، ولهذا أظن أن الشعراء الفلسطينيين بشكل عام هم الأكثر تلقائية في الخطاب الذي يجدل بين الموضوعي العام والذاتي.
يتحدث زملاؤك عن معاركك أو خلافاتك مع الراحل محمود درويش.. هل بالإمكان إضاءة مناطق هذه الخلافات بينكما؟
كانت صداقتي مع الراحل محمود درويش حميمة ومشهودا عليها، واعترافي بهذه القامة الكبيرة يسبقني دائما في أي حديث، ولكن كما الأمعاء في الجسد تتعارك فقد حصلت بعض الاحتكاكات الساخنة التي لا تشكل شرخا في العلاقة أو ارتباكا للمسار الإنساني.
وأود القول إن شخصية الراحل محمود درويش ليست نتاج شاعر كبير فقط، بل هو أنموذج إنساني فريد وحضوره كان نديا وغنيا، وأجزم أنه ما من لقاء معه إلا كنت أخرج بفائدة من نوع ما، لكن مزاجه كان ناريا.
قصائدك تمحورت حول التراجيديا الفلسطينية “التشرد والنضال والمقاومة”، لكنك ذهبت لقصيدة النثر بعد اتفاق أوسلو رغم عدم قناعتك بهذا النوع من القريض.. فماذا فعل بك هذا الاتفاق؟
أعتقد أنني بحاجة لإنصاف علاقتي بقصيدة النثر؛ فمع أنني أميل في مزاجي العام إلى الإيقاع والوزن فإن قصيدة النثر لم تكن غريبة عني، وكنت في مطلع شبابي مسحورا بالشاعر الفلسطيني توفيق صايغ رغم أنه كان كثير الخصوم، لكنه وجد طريقه لذائقتي الفنية ووجداني الأدبي وانفتحت أمامي مشروعية قصيدة النثر.
وفي الحقيقة، لم أكتب كثيرا من قصائد النثر بسبب تمكن قصيدة الوزن مني منذ محاولات الطفولة، وكانت لحظة أوسلو أكبر اللحظات الإشكالية في الوجدان الوطني لأن “الولد الفلسطيني” الذي نشأ وترعرع على أمل أن يرى حيفا مسقط الرأس والوطن الأم لا يستطيع التفكير في إيجاد أي نوع من البدائل مهما تذرع السياسي بأن الاتفاقات تكتيكية، وشخصيا أنطلق من بدهية أنني ابن حيفا التي لا يمكن أن يعوضها أي حلم يقظة أو مراوغة سياسية.
ولو سألت حفيدي “من أين أنت؟” لأجابك بعفوية “أنا حيفاوي”، وأعتقد بأن المعادلة أبسط مما يظن المتحذلقون أو أولئك الذين يميلون للطرق الملتوية “أنا حيفاوي حتى تقوم الساعة”.
من مقولاتك “شعري يتجسس عليّ” وأن “الشعر يتجسس على صاحبه”، كما يقال أيضا إن الرواية فضيحة الكاتب، فبم باح شعرك؟
هذا تعبير مجازي استخدمته منذ نعومة أظفاري، ونشأ من إحساسي الفطري بالتطابق بين الشأن الذاتي والهم الموضوعي، ولن أزايد إن قلت إنني فلسطيني وشأني في ذلك شأن الذين حملوا صليب فلسطين “رمز العذاب” وجعلوا فلسطين في نتاجهم الإبداعي سؤال العدل العالمي الأول، والسر الذي كشفته قصائدي هو أنني لم أكتب عن فلسطين بوصفها موضوعا وطنيا، بل كانت بوحا ذاتيا حميما.
الشاعر والربيع العربي قضية مثارة في المرحلة الحالية.. فأين تقف وأنت الذي ربط بين الفعل والكتابة وحمل السلاح فدائيا؟
هذا سؤال وجودي كبير: أن تكون فلسطينيا يعني أن تحمل التبعات كافة التي تضعك في محرقة السؤال باستمرار، ونحن الفلسطينيين لا نتفاخر على أقراننا العرب بهويتنا الوطنية، فالعرب فلسطينيون من حيث جوهر سؤال العدل والانتماء والشرف الإنساني.
وشخصيا أخاف من الاصطلاحات الجاهزة، فالحياة السياسية أكثر تعقيدا من أن نزجها في خانة الفصول، والحياة ليست وردا فقط وليست فحما أيضا.
ربطت بين الشعر واللجوء الفلسطيني إلى درجة أنك سألت عمتك المتزوجة في نابلس شمال الضفة الغربية “كيف لإبراهيم طوقان أن يكون شاعرا وهو ليس بلاجئ”؟
كان هذا سؤالا ساذجا من أيام الطفولة؛ ففي المحيط المدرسي والأفق الوطني كنا نلاحظ ارتباط الفلسطيني باللجوء أو النكبة أو المأساة يتعلق بحيرة الطفل البريء، وأنا أحار كيف تكون عمتي النابلسية فلسطينية رغم عدم وقوعها تحت الاحتلال، وانسحب ذلك على شاعرنا الراحل إبراهيم طوقان.
وما زلت أذكر عندما طلب أستاذ اللغة العربية أن نصف الوطن فوجدنا نحن الأطفال إشكالية مفاجئة لأن معظمنا ولد ونشأ خارجه، ولولا ذاكرة الأسلاف لكانت فلسطين مجرد درس في التاريخ، فلماذا تلاحقنا تلك الشوكة المزمنة؟
_______
*المصدر: الجزيرة.نت

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *