مُؤَشِّراتُ التَّمْعِينِ الشِّعريّ والجَمَالِيّ في «لا شَامَةَ تدُلُّ أُمِّي عَلَيَّ» لغسَّان زقطان


*صلاح بوسريف


يذهب هايدغر، في حديثه عن ماهية الشِّعر، وفي حديثه، بصورة خاصَّة عن دور اللغة، ووظيفتها الشِّعْرِيَّيْن، قارئاً، بعض ما أتاحَتْه له كتابات هُلدرلين، إلى أنَّ «الموجود الإنساني»، هو الذي يَشْهَدُ على ما هو «موجود». والشَّهادةُ، هنا، تعني الكَشْف، والفَضْح، والإفْشاء. فالإنسان ينتمي إلى الأرض، ويَجِب أن يُقِرَّ بهذا الانتماء، ويَشْهَدَ به، باعتباره «وَرِيثاً للأشياء جميعها، ومُتَعَلِّماً منها». وما يَفْصِل بين الأشياء، وما يربط بينها، في الوقت نفسه، هو ما يُسَمِّيه هلدرلين «الطَّابَع الجوهريّ الحميم» للموجود الإنساني. ولكي يكون أي تأريخ مُمْكِناً، فلابُدّ من أن تُمْنَحَ اللغةُ للإنسان. فاللغة نعمة بالنسبة للإنسان، كَما أنَّها نِعّمَة تَتَّسِم بالخَطَر، أو هي أخْطَر النِّعَم، بتعبير هُلدرلين.
العنوان، في ذاتِه، باعتباره عَتَبَة الكِتاب، أو أحد النُّصوص المُوازِيَة Les paratextes، التي تلعبُ دَوْرَ الهادِيَ والمُرْشِدَ، أو الضَّوْءَ الَّذي هو أحد مُؤَشِّرات «المعنى»، لا يُساعِدُ، البَثَّةَ، على اختراق هذا «المعنى»، أو الاقتراب منه، بالأحرى، بقدر ما يَزِيدُ من كثافة المعنى، وحُلْكَتِه، و تشَظِّيه، والْتِباسِه على القاريء، الذي قد يعتقد أنَّ الديوان، ربما، هو سيرة ذاتية، العلاقة فيها، قد، تَنْحَصِر، فقط، بين الأم والإبن، أو هو عملية بَحْث في أَصْل الرَّحِم ، تُشْبِه ما جاء في بعض القصص الدينية، التي دَلَّتْ فيها رابطة الدم، أو القرابة، من خلال بعض سِماتِها، أو علاقاتِها التي هي نوع من الهوية الشخصية، الخاصَّة بهذا الشخص، دون غيره، خصوصاً أنَّ الشَّاعر، لم يستعمل لفظة علامة، بل «شامة»، وهذا، في تقديري، ما زاد الأمر تركيباً، وكثافةً، وضاعَفَ دَوْرَ اللغة، في تَلْبِيس المعنى، وتعقيد العنوان ذاته.
في الصفحة العاشرة من الديوان، نقرأ عِبارةً، هي من المُؤَشِّرات التي تُساعِدُنا على فَكِّ بعض مغاليق، هذه الالْتِباسات التي وَضَعَتْنا فيها بعض عتبات الكتاب. يقول الشَّاعر:
«لاَ بَيْتَ لِي
وَلاَ مَنْفَى لَكِ».
حَرِصْتُ على شَكْل العبارة، حتَّى تبدو صيغة التأنِيث، في المُخَاطَب، التي هي «سارة اليهودية». فهذه العبارة، التي هي بُؤْرَة المقطع، كاملاً، أو هي، بالأحرى، أحد المفاتيح التي تُساعِد على فَضِّ بعض طبقاتِ الغموض، أو التباس المعنى، خصوصاً أنَّ قاريء، غسّان، وغير غسَّان، من الشُّعراء الفلسطينيين، يبحث، في ما يكتبونه، ويقولونه، عن مثل هذه التعابير، لأنَّها أصبحت من طبيعة هذا الشِّعر، ومن مُؤَشِّرات الجُرْح الفلسطيني العميق، الذي باتَ جُرْحاً ألَمُهُ، لا يفتأ يكبُر، ويزداد تَوَسُّعاً في جُسُومِنا العربية الكثيرة!
يعمل غَسَّان، من خلال اسْتِحْضار «سارة اليهودية»، على اقتسام تَبِعاتِ هذا الجُرْح، وهذا المنفى، أو وضع اللاَّ إقَامَةَ، الذي يَشِي، في عُمْقِه بصورة «الرَّجُل المُعلَّق» الذي لا هو في الأرض، ولا هو في السَّماء، كما كان رَسَمَها ابنُ سينا، في سياق آخر مُغايرٍ، طبعاً. فليست الذّات، أو «الموجود» الفلسطيني، بتعديل تعبير هايدغر، هُنا، هو من يُقِيم في مُفْتَرَق الالْتِباسِ، حيثُ «لا بَيْتَ»، ولا سَكَن، بمعنى السَّكِينة، والاسْتِقرار، بل إنَّ «الآخَر»، هذا اللاَّمَنْفِيَّ، هو الآخر، مُقيمٌ في وَضْعِ الالتباس، أو في مُفْتَرَقِه، لأنَّ هذا الآخر، الذي يحمل صفة «اليهوديّ» لا «الإسرائيليّ»، لِنَحْذَر الفَرْقَ، ليس نقيضاً، أو عَدُوّاً، فهو، أيضاً، ضَحِيَّة، وهو ليس مَنْفِيّاً، بمعنى ليس مُسْتَقِرّاً، ولا سَاكِناً، وهذا ما تَفْضَحُه العبارة السَّابقة على «ولا منفى لَكِ»، وهي «لا بيتَ لِي». فالسِّياق، أضْفَى على مُفْرَدَتَيْ «البيت» و «المنفى»، غير ما حَمِلَتاهُ في أصلهما المُعْجمي، وهذا ما يُعْطِي معنى «اللغة»، أو «ماهيتَها»، في نص هايدغر، الذي يحمل هذا العنوان نفسَه، ليست المفردة، أو اللَّفْظَه مَنْزُوعة من السِّياق، أو خارِجَه، بل التركيب. فـ «اللاَّ بيت» في هذا المُؤَشِّر التَّمْعِيني، أصبح نقيضاً، لـ «اللاَّ منفى»، بما يعنيه من وُجود الذات والآخر، في نفس الجُرْح، وأنَّ كِلَيْهِما ضحية لنفس «القاتِل»، أو المُحْتَلّ.
وحتَّى حين نخرج من هذا المُؤَشِّر التَّمْعِينِيّ، الذي هو نوع من كتابةِ اللُّغَةِ لَنا، بتعبير هايدغر، أو ما يَنْفِلت مِنَّا، ويشِي بما نُخْفيه، في كُل عملية عُبور، فنحن في عملية إخفاء الأثر، نترك آثراً يَدُلُّ على مَحْوِ الأثر، والرَّغْبَة في إخفائه. واللُّغَة، في الشِّعر، بشكل خاصّ، هي من تقوم بهذا الدَّوْر، أي بدور المُخْبِر، الذي يتعَقَّبُنا في غَفْلَةٍ مِنَّا، ويحرص على أن يرانا ولا نراه، أو يقولُنا، ويكْشِفُنا، ونحن نسعى لِخِداعه، والانفلات من شِباكه، التي يحوكُها حَوْلنا بمهارة صيَّاد مُحْتَرِف. فالعناوين الأربعة الكُبْرى، هي في جوهرها، ليست سوى نص واحد، أو هي، لنكون أكثر تدقيقاً، مُؤَشِّراتٍ لنفس التَّمْعِين، أو تَفْتِيت، وتَشْظِيَة المعنى، وتوزيعه على الكتاب كاملاً، سَعْياً للابْتِعاد عن المعنى المُباشِر، الذي كان من سِمات الشِّعر الفلسطيني، أي الكلام عن الجُرْحِ، بِكَشْف الجُرْح وتَعْرِيَتِه، وأنَّ الآخر كُلُّه شَرٌّ، ولا مكان له في المَكان، أو في وجود الذَّات. 
فغسَّان زقطان، هو أحد الشُّعراء الفلسطينيين، الذين وَسَّعُوا «القضية» شِعْرِياً، وخرجُوا بها من نِطاق الذات الفلسطينية، لتصير قضية الوُجود الإنساني على الأرض، وبَدَلَ التَّعْرِيَة، وَعَى الشَّاعِر، في هذا العمل الشِّعري، كما في غيره من أعماله السَّابِقَة، أنَّ التَّوْرِيَة، هي الحَدّ الفاصِل، بين ما يمكن أن يفتح الجُرْح على الكُلّ، ويصبح قضية وُجود الموجود في هذا الوجود، أو عَلَى الأرض، وبين أن نَعْزِلَ هذا الموجود، ونَخْتَزِلَه في معنى إنْسانٍ مُحْتَلّ، بلا بيت، وبلا وَطَن، أو هو مُقاوِم أبديّ، نَذَر نفسَه للبحث عن إقامَةٍ في الأرض، معزولاً، مفصولاً عن الضَّمِير الجَمْعِيِّ العام، الذي هو ضميرٌ، يكتفي بالتَّأسِّي، وبالإشْفاق، وإعلان التَّضامُن اللَّفْظِي، الذي هو نوع من العَزْل المُضاعَف لهذا الإنسان. فالقضية هي قضية ذاتٍ وآخَر، وقضية موجود في عملية بحْث عن وجود، أو إقامة، ليس في الأرض، فقط، بل في الضَّياع الإنساني المُشْتَرَك، الذي باتَ معه الموجود مُهَدَّداً، بالوُجود في اللاَّوُجود، أو اللاَّمَعْنى بالأحرى.
ثمَّة في الديوان، كامِلاً، ما يُؤَشِّر إلى هذا المعنى، ويفضحه، أو يضعه في طريق القاريء، شريطة أن يخرج هذا القاريء، من الدلالات المباشرة للأسماء، ويذهب إلى ما تقوله اللغة، لا ما يقوله الشَّاعر، تحديداً، لأنَّ اللغةَ في الشِّعر، هي انْكِتابٌ، بالمعنى الهايدغيريّ، الذي سلفت الإشارة إليه، وكُلُّ ما يعتبره الشَّاعر إخْفاءً، فهو كَشْفٌ، وفَضْحٌ، وتَعْرِيَة، وتَمْزِيق لِلْحُجُبِ.
فحين «تَتَنهَّد العَرَبات المتروكة على جَنَبَات الطُّرُق»، وحين «يتنهَّد شُعراء فَقَدُوا علاماَت السُّلالَة»، وحين «تُخَشْخِش الأوراق الجافَّة تحت خُطَى المُحارِبين القَتْلى»، أو حين يفقد الشَّاعر، نفسه، الضَّوْءَ الذي به كان يمكنه أن يَدُلَّ «سارةَ» على طريق الخلاص، أو امِّحاء الذات، لا الجسَد، مِمَّا يدُلُّ عليها عند أقربِ دَمٍ إليه، وهو الأم، لِنُوَسِّع معنى الأم هُنا أكثر، حتَّى لا تبقى الحاضِنَ اليبولوجيَّ لهذا الدَّم، فالكائن، أو الموجود، ولا فرق بين الراهب، والمُقاتِل، أو العربي واليهوديّ، هو من يصبح مَعْنِياً بالبحث عَمَّا يدلُّ على هذه «الذَّات» التي تتلاشَى باستمرار، وتَمَّحِي بفعل التَّقادُم، وبفعل العادة والنِّسيان. وهذا، إضافة إلى خَطَر اللغة، هو خَطَر الكَائِن، المُهَدَّد في كينوته، وفي اسْمِه، في لغته التي هي ما بِه يُوجِدَ العالَمَ، وما به يُوجَدُ هو أيضاً، باعتباره كائناً كَامِلَ الكينونة.
إنَّ العنوان يَتَعرَّى، ويتكشَّف، بالتَّدْرِيج، في صيغته الأنطولوجية، لا البيولوجية، السَّطْحِيَة، الظاهرة، خصوصاً حين تحمل اللغة عِبْء الشَّاعر، وتحرص، بغموضها الشَّفَّاف، في أكثر من مكان في الكتاب، على قَوْل المَكْتُوم، وكشْف المحجوب. يقول [الشَّاعِر!]:
«الرُّعاة أخذوا اسمي ووزَّعُوه بينهم مثل ذبيحة
وأنتِ تبحثين في جسدي عن علامة».
أليس في هذا ما يُوَسِّع معنى مفهوم المأساة، أو يضعُها في سياقها الحقيقيّ، بالعودة بها إلى معناها الأسطوري، الذي نجده، مثلاً، عند جلجامش، هذا «الذي رأى كُلَّ شيء»، والشَّاعِر يستعمل هذه العبارة، دون ذكر جلجامش، في سياق استعادته لحليب الأم، لعرقها، للطِّفل الذي، قَبْلَ بُلوغِه، رأى ما كل شيء، لكنه، مثل جلجامش، لم يُدْرِك أنَّ الرُّؤيةَ، بهذا المعنى المأساوي، تأكُل عَيْن الرَّائي، وتسرق منها الضوء الذي كان مصدر ما رآه؟
فأنا مُلْزَمٌ، هُنا، بأن أدُلَّ، فقط، وأكشف عن مُؤَشِّرات التَّمْعِين في الشِّعر، باعتباره الجمالي، الذي تفرض فيه الصُّوَر والتراكيب، على الشَّاعر، أن يتَكشَّف، يبدو، ويتعرَّى، مثلما فعلت «الغانية» مع «أنكيدو» لتَسْتَدْرِجَه إلى شهواتها وفِتَنِها، وهو منزوعٌ من تَوَحُّشِه، ومن جسارة جِسْمِه الخارقِ، الذي هو سِلاحُه ولُغًَتُه. 
إنَّ غسان زقطان، شاعر، تستغرقُه اللغة، بقدر ما يُحاوِل أن يَسْتَغْرِقَها، أي باعتبارها الأساسي»، ليس «في آنِيَة الإنسانِ»، كما يرى هايدغر، بل وفي آنِيَة الشَّاعر، وفي وُجودِه الشِّعري، وهذا ما يجعل من الكتابةِ انْكِتاباً، أي تَقاسُماً، وتداولاً على التَّمْعِين الشِّعري الجمالي، الذي كثيراً ما نُخْطِيء الطريق إليه، حين لا نُدْرِك المفهوم الجديد لـ «الكتابة الدينامية المفتوحة»، كما أُسَمِيها، في مُواجَهَة، ونقدِ الكتابة التي لم تخرج من مفهوم «القصيدة»، ولم تعِ مفهوم الدينامية، في الكتابة، كما أشار إليها تينيانوف، باعتبارها القلبَ المُسِيلَ لدِماء النَّص في شرايينه، ولصيرورته، التي لا تَفْتَأ تتجدَّد، كما تتجدَّد مياه النَّهْرِ، دون انقطاع.
النص الشِّعريّ الجديد، هو نَصّ كِتابةٍ، لا «قصيدة نثر»، بهذا المعنى المُلْغِز، الغامِضِ، الذي لا يَسْتَوْفِي سَعَةَ النص، في هذا الدِّيوان، كما في غيره من الدواوين التي فتحَت آُفُقَ الشعرِ، على شِعْرِيَة دينامية مُتَصَيِّرَةٍ، ليس الوزن، أو النثر، ما يعنيها، بقدر ما هي مَعْنِيَة بشعرية اللغة، وهِيَ تَتَخَلَّق، كما يتخلَّقُ الطِّينُ، ويَنْبَثِق في يَدِ الخزَّاف، بعكس الشَّظايا التي يستخرجُها الأركيولوجي من تحت الأرض، ويعمل على ترميمها، ليعرف من خلالها تاريخها الذي منه انْبَثَقَتْ، وهذا وَضْع «القصيدة»، سواء احتَمَتْ بالوزن، أو بالنثر. وغَسَّان، هو خزَّاف، وليس أركيولوجياً، أو أو مُرَمِّمَ آثَارٍ وبقايا.
_________
*المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *