نداء يونس*
خاص ( ثقافات )
اعتدنا رؤيتهن في الروايات، خلف المشربيات أو عاشقات أو ثائرات أو متمردات في الحدائق الخلفية لمجتمعاتنا، أما أن نراهن مجنونات، فهذا ما لا يحدث بهذا القدر والانكشاف تقريباً، إلا في “مجانين بيت لحم”…
اعتدنا أن نراهم في كل مكان: في الأدب والسياسة والقضاء والثورة والإعلام، الخ، طاغٍ حضور الرجال على المرأة التي لا ينالها إلا شعارات وغدة يرفعها مستبيحون أو مستفيدات، تنتصر سيرة المرأة وتطغى إذا تعلق الأمر بفضيحة، فقط، أما أن نرى حضوراً موازياً وكثيفاً لهن، فهذا ما لا يحدث إلا في مجانين بيت لحم….
قد تبدو الأمور مخيفة عندما نكتب عن الحد الفاصل بين العقل والجنون وعالميهما المتوازيين، لكنه لم يخف، أقصد، العيسة. ما يثير الانطباع في هذه الرواية: تساوي الناس في الجنون كما الموت، وبقاؤهم أوفياء لجنونهم في العالم المشمشي الموازي لعالم العقلاء…
الرواية ملأى بالمجانين: رجال ونساء، أسرى وأبناء عائلات أرستقراطية، فقراء ولاجئون، أبناء قرى ومدن، ومسلمون ويهود ومسيحيون ومجانين المسيح، وعرب وأمريكيون وروس وآخرون من الدول العربية الشقيقة، رجال دين وملحدون، ضفِّيون وغزِّيون ومن أراضي 48، شعراء وصحفيون، كبار وصغار، وأباطرة ورؤساء، تابعون ومديرون ومسؤولون ودجالون، أبرياء ومتورطون، وأنبياء وشهداء ومقاومون، وأناس على الهامش الأقصى للهامش المتاح، وعاشقون- كم سحرني أن يكون المجانين عاشقون، وأن يسعف بعضهم الخيال لذلك. يبدو الجنون مع وفرة الشخوص وأسباب جنونهم فضفاضاً وغير محدد الهوية….
المجانين في هذه الرواية يشكلون عالماً كاملاً وليس حالات مفردة، عالم تحيط به دولة موازية – دولتنا التي تقضم مساحة أرضه – أي الدير- لصالح إقامة منشآت وأبنية لغير صالح مواطنيه، وما يتبقى منه قابل للنقصان – مثل دولتنا تماما. يحتفل كل طرف بما يحصل عليه، ونُسقط على عالمهم تقسيماتنا العنصرية الجاهزة – ونمارس عليه احتلالاً وأحكاماً وسخرة في أحيان كثيرة، ولكنه يبقى برجاله ونسائه خارج سيطرتنا، حيث نبقى أمامهم، كما يؤكد الكاتب، “مفضوحون وطفوليون”. المؤلم في الأمر، أمر الجنون، أن الكثير من الصدف تحدد من يدخل الدير ومن يبقى خارجه “يا للصدف العمياء التي تحدد مفردات موتنا”، يقول العيسة، وأضيف: وجنوننا.
لماذا يبدو عدد المجنونات موازياً تقريباً لعدد المجانين في روايته؟ لماذا كان عدد المجنونات في “عائلته” أكثر؟ يؤكد الراوي أنه لن يعرف، ولن يبذل جهداً لذلك، لكنه لا يلتزم برغبته المعلنة، فها هو يشير إلى الحرمان والغضب مثلاً، “فما أكثر الخالات المجنونات، ونصف المجنونات، الصامتات القابلات بجنونهن، أو الصارخات اللواتي أردن إعلان جنونهن على الملأ”. ولكن الزيادة في العدد ليست انتصاراً للرجل، ولـ”نحن”، هي ليست إثباتاً، بل إدانة، إذ “ليس أسهل في بلادنا من إصدار بيانات، من قبل العائلات، أو الجهات الرسمية، يمكنها أن تصنف النساء بأنهن مجنونات، أو مفقودات، وقد لا يكون الهدف البحث عنهن، بل تسجيل وقائع غيابهن، لأغراض دنيوية، مثل إجراءات طلاق، أو حصر إرث”.
الجنون أسلوب حياة، المجانين، هن وهم يشتركون في كثير من الصفات: الملابس الرثة، الصراخ، قذف الحجارة، الشتائم الجنسية أو الممارسة الجنسية المباشرة أو شبه المباشرة- التي يعلم عنها الجميع ويتغاضون عنها، بذريعة أن فلاناً خلق للجنون، ربما أيضاً لتبرير فكرة استباحة هؤلاء الاشخاص. يكمن فرق واحد في الانكسار والتذلل، فهما خاصان بالنساء، لأن الرجال يرثون حين يُجنُّون ما رباهم عليه المجتمع من القوة (هكذا يُختزل الفرق بين حاملات تاء التأنيث والمتحررين من قيودها – في العالميْن). أما الفروق بيننا وبينهم فأمرها متروك للصدف. كيف يمكن لقارئ أن يقول – وهو يقرأ- أنا برفقة المجانين؟ إذ ليس كل المجانين حولنا يدخنون “عمر”، من يثق بموقعه؟ من يمكنه أن يشكل يقيناً حول حالته العقلية ولا شيء يحدد مكاننا في هذا العالم المشمشي سوى الصدف؟ سيما وأن أهواء وتقلبات البشر في عالمنا، تبدو في أحيان كثيرة غير مفهومة. إن مقاربة جسدية لهذه الاختلاف ذكية إلى حد مؤلم، إذ إننا نعلم جيداً أن جسد المجنون/ المجنونة، في الواقع، ليس إلا أوسخ قليلاً من أجسادنا، “ولم يكن جسمها، في الواقع، إلا أوسخ من أجسادنا قليلاً”.
يبدو المجانين كأنهم قبيلة، قبيلة وحَّدَها الجنون، ربما، ذاك الجنون الذي يأبى أن يلعب دوره في توحيد من جعلتهم الصدف، فقط، لا ينتمون فعلياً أو “رسمياً” لها. بكل الأحوال، كلهم يموتون، دراماتيكية الموت مشابهة لقصص أخرى في العالم الموازي، لكنها لا تأخذ بعداً أكثر دراماتيكية في عالم المجانين، يموتون ولا يهتم أحد بمعرفة الحكاية، إلا إن كانت انتحاراً حيث يبحث العارفون عن نظريات تفسر الحالة، ربما لأن الجنون يحتاج إلى قرار يفترض أن المجنون لا يمتلكه، تصبح الحالة في إطار هذه النظرية قصة التشكيك في الجنون، وليس الموت. يكتفي البعض باللوم الآني للذات، ولكنها حيوات تذهب دون انتباه. دورنا أن نجد من يدفن المجنون وفق دينه: شيخاً أو قساً، وأحيانا تمرجياً حين لا يتذكره أحد. ربما كان من الجميل أن يزيد عدد القبائل في العالم واحدة!
ليس بعيداً عن نون النسوة، نجد أن هذا أحد الأعمال الذي لا تدرك فيه، لتمكن كاتبه من الحفاظ على تماسك السرد والسيطرة على العالمين، الحد الفاصل بين هو وهي، وبين الخيال والحقائق، وكلها حقائق. في مكان ما من الرواية، تفتخر بهيجة بأن “يده” وصلت إلى حيث لم يُسمح لأحد. ما الذي يحتاجه شخص ليحكم السيطرة بهذه القوة على العالمين، هذا تحليل سيكتبه “مجنون” آخر.
العيسة صحافي بالأصل، مثل زوربا الذي لم يرد في هذه الرواية ضمن الذين أصيبوا بلوثة حين زاروا فلسطين، وتنبأ بكل هذا الخراب، زوربا الذي حول تقاريره الصحفية إلى نصوص أدبية، وأصيب مثل مجانين المسيح، بلوثة الكتاب المقدس وأساطير العهد القديم. ليس زوربا الصحفي الوحيد الذي أصيب بلوثة الأرض المقدسة، فهناك الصحفي اليهودي الذي أتت الرواية على ذكره وهو النمساوي تيودور هيرتزل الذي حدَّث الإمبراطور غليوم عن أحلامه في وطن قومي لليهود في فلسطين حين التقاه في الآستانة، وحفيد له في المهنة واللوثة التي يبدو أنه نجا منها فكرياً ومكانياً لاحقاً، هو ميكو بيليد، الذي كتب “ابن الجنرال – رحلة إسرائيلي في فلسطين”، كبناء صحفي بامتياز. الصحفيون الذين يكتبون الرواية، وأضيف إليهم صنع الله إبراهيم الذي عمل صحافياً في وكالة الصحافة الألمانية، لا يتحررون بالكامل من الهندسة الصحفية للنصوص. نجد لدى هؤلاء الصحفيين الروائيين جميعاً، تلك اللغة السهلة السائلة (العيسة استخدم مفردة معجمية واحدة فقط، ما خلا إيراده لتقسيمات ابن حسيب للمجانين)، أفكاره مرتبة مثل قوالب البناء، والتفاصيل طاغية والانتقال الزمني والسردي يلفت إلى قوة ومتانة وقدرة على السيطرة على تلك الحركة بين قصة وأخرى، ومكان وآخر.
مثل صنع الله الذي بنى مشروعه الأدبي برمته على قراءة الصحف المصرية وقصقصة أوراقها في إطار مشروع روائي، يميل العيسة إلى تجميع وثائق وشهادات، وهو ما أورده صراحة في عمله الأدبي في موقعين منفصلين مثل قوله “تتوفر في هذا الخصوص شهادات جمعتها من رجال أعمال، وأنا أكتب هذا العمل”. هنا يستحضرنا ادعاء صنع الله بأن “الرواية كذبة”، فهو يؤكد: “أنا أحكي حكايات مؤلفة ومتخيلة، ومن حقي أن أستخدم كجزء من هذا البناء تفاصيل حقيقية في الحياة والتاريخ والجغرافيا وأي مجال، هذا يغني عملية التخييل، عملية الكذب التي تتم”. ينقلنا هذا الادعاء إلى ثنائية الخيال والحقيقة والخط الفاصل بينهما، هل كان العيسة يخبرنا حلماً، أم أنه كان يكتب ليحلم؟ وهل كان العيسة يكذب أم أنه أراد بأسلوبه الصحفي أن يحتال على واقعية الحكاية بنسبها إلى جنس الرواية، سيما وأنه يخشى بطش البعض: من كتب عنهم أو لم يذكرهم جبناً، كما قال؟
تستحضرنا عند القراءة أسئلة بدهية، والبديهي غالباً ما يكون ساذجاً إذا لم يتخذ وسيلة للغوص إلى العمق. بكلمات أخرى: نقع في فخ السذاجة إذا لم نستطع أن نستخدم البداهة كأسلوب لتحليل النص. إن قراءة أولى للرواية تدفعنا إلى التساؤل انطلاقاً من إيمان صنع الله حول الرواية التي لا يجب أن “تؤخذ ككتاب تاريخ، لأن التاريخ مجال آخر، التاريخ علم، يمكن أن نختلف حول صدق هذا التاريخ أو عدم دقته، لكنه مجال فيه تطور وأبحاث وإضافات وخلافات وتفسيرات.. إلخ”، فهل يظهر العيسة وعياً كاملاً حول الفرق بين التاريخ والرواية؟ هل يدرك أن الرواية ليست تاريخاً ولا يمكنها أن تكون؟ لماذا إذا يصر على نقل بعض النصوص التاريخية دون إخضاعها للتدقيق اللغوي حفاظاً على روحها وعلى الأمانة في نقلها، لماذا يقول بعد 72 صفحة من السرد التاريخي أن من تحمل القراءة إلى هنا – ويقصد بـ”هنا- كل هذا التاريخ، تاريخ الدهيشة وداهش وغليوم وتاريخ لجوء عائلته الشخصي والأساطير الحاتمية والعاشقة الذبيحة وغيرها، والذي تتخلله بعض النصوص الأدبية والتاريخية بحرفيتها يستطيع الدخول إلى عالم المجانين؟ هل يحتاج القارئ، كما يقول العيسة، إلى الصبر المطلق للدخول إلى عالم المجانين؟ للدخول عميقاً في النص، أليس عالم المجانين مغرياً بذاته، خصوصاً عندما يتم الإعلان عنه جهاراً. الذي يقرأ كل تلك المقدمة الطويلة، ثم يغوص في عالم المجانين، سيبتسم لدهاء الكاتب، يبتسم ابتسامة مشمشية، يقف أمام مرآة، يحدق طويلاً ويتساءل: هل التاريخ (تاريخ المجانين) مرآة للواقع، أم أن الواقع مرآة له؟ أيهما كان أولاً المجانين أم التاريخ؟ أينا المرآة يقول لما يعتقد أنه صورته في الزجاج المشغول؟ لهذا يبدأ الكاتب روايته بتاريخ، ثم ينهيها بتاريخ. مع التاريخ نلعب لعبة المرايا، وفي روايته، استطاع الكاتب أن ينتقل بسلاسة بين التاريخ وشخصيات روايته، وأن يكتب تاريخ الدهيشة استناداً إلى تاريخ قائم، وأن يجعلنا في ذات الوقت نتساءل عن مدى حقيقة تلك الشخصيات التي كتب عنها وأن يتمسك جيداً بكل وعيه حتى لا يفقد خيط السرد سيما وأن الكاتب اعتمد أكثر من راوٍ، ولا أقول اثنان، وتناسخ الرواة حكاية أخرى.
الأدب مليء بتلك الشخوص المجنونة، لم ينج كاتب -حسب علمي- من الكتابة عن كل هؤلاء المجانين الذين قادتهم الصدف إلى أن يمثلوا في تلك الروايات أدوارهم، لكن يندر أن يجاهر الروائيون بجنون شخصياتهم، هم يناورون ليؤمنوا التعاطف مع أبطالهم. الحياد تجاه تلك الشخصيات مكسب أيضاً، فكل الأدب يحاول تبرير الجنون. العيسة يقدم أبطاله كما هم، بل ويسبقهم بوصف مجنون ويصر عليه، ربما أراد تطبيع العلاقة بين المجتمع والمجانين، لكن أحسن من حيث لا يدري برمي هذا الحمل مباشراً على القارئ، إذ كيف تصف من يستثار لصوت العصافير – ويأتيه ظهره مباشرة- مجنوناً، مثلاً؟ هل هو شاعر، وماذا عن تقديم الرواية لكل شاعر على أنه مجنون. الرواية دوائر متواصلة، تنتهي الأمور حيث تبدأ، الحقيقي يصبح تاريخاً، والتاريخ حكاية عن الحقيقي، سيجارة تشتغل من عقب سيجارة، لكن الصداقة مع مجنون تأتي بفائدة دائماً يا يوسف علان، يتبقى عليك أن تعرف ذلك، وعليك أن تعرف أن المجانين لا يتركون الكثير للآخرين.
هذه رواية تخبرنا كيف يبدو وقع القدم على الأسفلت، نحن، أسرى هذا الزمن المائل الذي لم نرفع في وجهه فردة الحذاء ونحن نرى سماءه دائماً مكعبات من خلال الشبك الضيق. العالم الذي استطاع الرعب الديني المتعلق بالسلطة، والقهر، حتى بصيغته اليسارية، والموت، الذي لا معنى له، أن يمسخه إلى مكعبات.
العيسة، الذي لم يتحرر من مهنة الصحفي، ولم يرد للقارئ أن ينسى تلك الحقيقة، يؤكد في روايته أن “صحافة كل بلد تشبه ناسه، تشبه برلمانه وسبطته وأحزابه وقادته ومثقفيه وصحافييه” وينسحب القول على روايته المرآة.
“بما أن العالمين أصبحا واحداً، لماذا لا تأتي معي”، سيما وأن لكل منا عصافيره التي تزقزق، ونرغب كثيراً بأن لا ندفع فواتير الأرض ولا السماء. في هذه الرواية، الكل مدعو لوليمة الجنون، والراوي يصر على أن “هذه بضاعتكم ردت إليكم، أنا جيوبي انتفخت”.
* شاعرة فلسطينية